حفظ يشكل استشراف مستقبل الأدب الرقمي، رغم حداثته، أحد المحاور المهمة المطروحة على أذهان الأدباء والكتاب في العالم، ومصدر الاهتمام ينبع من التطور المذهل الذي أحدثته الثورة التكنولوجية في كل المجالات، ومن بينها الثقافة، واستشراف مستقبل الأدب الرقمي ينطوي على بحث مصير الكتاب الورقي، من منطلق علاقة كل من الكتاب و «الرقمية» ممثلة بالحاسوب بالأدب، لكن قبل استعراض مسارات استشراف كل منهما، يحسن لفت الانتباه إلى أن هذا الاستشراف لا يتناول مصير الأدب نفسه كنظام لتدوين الذاكرة الإنسانية، بل يبحث في مصير الأدب عبر علاقته بالوسائط والأدوات المادية الحاملة له، «الكتاب»، و «الحاسوب»، أو هو بحث في وسائط الأدب باعتبارها طرائق للعرض في حال احلال إحداها مكان الأخرى، وبناء على ذلك يتوجب على المعارضين لاستخدام الحاسوب أداة للكتابة والقراءة، أن يتأكدوا مما إذا كان قلقهم نابع من الخوف على مصير الأدب أم الخشية على مستقبل الكتاب، فكما لاحظ جان كليمون «فقد اقترن الأدب بالكتاب منذ فترة طويلة (اخترع الكتاب عام 200 قبل الميلاد) لدرجة صرنا معها نميل إلى القلق على مستقبل الكتاب أكثر مما نتساءل عن طبيعة العلاقة التي تم إنشاؤها منذ قرون بين النص وحامله» (جان كليمون، خطر الرقمية على الأدب، ترجمة محمد أسليم، موقع محمد أسليم). تمضى مسارات التوقعات المستشرفة لمستقبل الأدب الرقمي في اتجاهين، الأول رافض للأدب الرقمي، ولا يراه سوى «خرافة» ومحض «أضغاث أحلام»، ومن ثم فلا مستقبل له، ومن أتباع هذا الاتجاه الناقد المصري سعيد الوكيل الذي قال: «النوايا الطيبة لا تكفي لأن تصنع نوعا أدبيا جديدا، أقول هذا ليكون تعقيبا مبدئيا، لا يخلو من مرارة، على ما دأبت عليه الصحافة العربية المطبوعة والإلكترونية، في الفترة الأخيرة من مطالعتنا بالتبشير بميلاد أدب عربي جديد، وبداية عصر الواقعية الإلكترونية، وبأن بعض أدبائنا اخترع في إبداعه الأدبي تقنية رواية الواقعية الرقمية، بل وصل الأمر إلى حد الإعلان عن الحاجة إلى مدرسة نقدية توائم بين أبجديات النقد التقليدي، وتقنيات الكتابة الرقمية بأدواتها الحديثة، والتي تشكل الكلمة أحد عناصرها فحسب، وهذه كلها لعمري أضغاث أحلام» (د.سعد الوكيل، خرافة اسمها الواقعية الإلكترونية، صحيفة أخبار الأدب عددها الصادر بتاريخ 30/10/2005م). الثاني: يعتقد أن الأدب يشهد في الوقت الحالي، تحولا جذريا في اتجاه الرقمية، سينتج عنه قطيعة تامة مع الكتاب المطبوع في المستقبل لصالح الأدب الرقمي، ويذهب أصحاب هذا الاتجاه إلى أن الحاسوب يمثل الطور الرابع من أطوار تطور النص، عقب مروره خلال التاريخ الإنساني من المشافهة في البداية، إلى الكتابة التي ظهرت منذ حوال 5000 سنة، ثم الطباعة عام 1447م، ويمثل هذا الاتجاه الناقد المغربي محمد أسليم الذي وضع تصورين في هذا الصدد الأول حول مستقبل الأدبين الرقمي والمطبوع وفيه رأى أن: «صورة المستقبل ترتسم من خلال ثلاثة مستويات للتوقع: قصير، ومتوسط، وبعيد. في المدى القصير لا يبدو في الظاهر حدوث أي تغيير على الكتاب التقليدي، فالمطابع لازالت تشتغل بشكل جيد، ودور النشر تعمل، ومعارض الكتب تشهد رواجا كبيرا. في المدي المتوسط يمكن أن يحتل الكتاب الرقمي مساحة معادلة لنظيره الورقي في حقلي التعليم والثقافة على السواء، على غرار ما حصل في قترة الانتقال من البردية إلى الدفتر، ومن المخطوط إلى المطبعة... وفي المدى البعيد سيبدأ الكتاب الورقي دخوله الرسمي إلى المتحف، ويتحول إلى مقتنى أثري نفيس، مثلما هو الآن مع الألواح الطينية وأوراق البردي والمخطوطات القديمة» (د.محمد أسليم، مستقبل الأدب في ظل الثورة الرقمية، موقع محمد أسليم). التصور الثاني لمستقبل الأدب الرقمي نفسه، ويرى أسليم أنه رهن بثلاثة سيناريوهات: «السيناريو الأول: أن يكون أدبا رقميا على غرار ما نرى اليوم في النصوص التشعبية والشعر المتحرك والأدبين التوليدي والتوليفي. والسيناريو الثاني: أن يكون أدب تجهيزات. والسيناريو الثالث: وهو ما أتوقعه شخصيا، وفيه يقترب الأدب من السينما، بمعنى أن تأخذ الرواية ما يشبه شريطا سينمائيا، لكن مع تجاوز الخاصية الجوهرية للفيلم السينمائي الراهن، على الأقل خاصيتي الخطية حيث يضطر المشاهد إلى مشاهدة الشريط من البداية حتى النهاية، وخاصية أحادية البث إذ يتوجه الشريط من جهاز واحد أو حامل واحد إلى الجميع» (المصدر السابق). والمؤكد أنه من الصعب الجزم باحتمالية توقعات أي من الاتجاهين، لسبب موضوعي، أننا مازلنا في بداية التحول إلى الأدب الرقمي، وليس في وسع البدايات دائما أن تفصح عن معالم واضحة ونهائية للمستقبل، لكننا رغم ذلك من الممكن أن نتعرف على الاتجاه المحتمل للمستقبل في ضوء استيعاب أن التحول إلى الأدب الرقمي، يرتكز على شروط تكنولوجية وسائطية يمثلها الحاسوب، وشبكة الانترنت، والهواتف الذكية، التي تندمج يوما بعد يوم، وعلى نحو أقوى ضمن الأنماط الحياتية لإنسان هذا العصر، وتندرج بالتدريج ضمن الأشكال التي يستعملها في التعبير والكتابة، «وكلما تطور الفكر البشري، وتطورت آليات تفكيره، تغيرت أشكال تعبيره، ومن ثمة تغيرت إدراكاته للأشياء والحياة والعالم، وهو مبدأ يستقيم مع التطور التاريخي المنطقي للمعرفة في علاقتها بالتطور التاريخي للحضارات» (د. زهور كرام، الأدب والتكنولوجيا: أسئلة ثقافية وتأملات في المفاهيم، http://www.algomhoriah.net/newsweekarticle.php?sid=37680) إن الأدب الرقمي يبدو كنبع خصب، غير أنه مهجور بسبب عدم التفات المبدعين العرب إلى إمكاناته، ومكمن خصوبته يتمثل في أنه لازال قيد التشكل، ومفتوح أمام التجريب الإنساني، وإحجام العرب عن مضمار التجريب فيه، سيترتب عليه صياغة قواعده وشروطه بعيدا عن خصوصيتهم الثقافية، وهذا ما لا يريده أحد.