رغبة المؤمن في الخير، وحرصه على استجماع الفضائل، وسمو همته إلى الترقي في الكمالات، قد يحمله على سلوك سبيل المبالغة، ويتجافى به عن القصد، ويحيد به عن التوسط؛ لذا كان من رحمة الله وحكمته سبحانه أن قرن الأمر بطاعته، وطلب مرضاته، بالحث على لزوم القصد في ذلك وهو التوسط والاعتدال وعدم الخروج إلى الإفراط المفضي في النهاية إلى التفريط بسبب النفرة والملال ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «لن ينجي أحدا منكم عمله» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته، سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا». فلزوم الطريق الوسط المعتدل يرجى لسالكه أن يبلغ به ما أراد من خير، وما قصد من فوز، وما سعى إليه من حظوة برضوان ربه، ونزول الجنة دار كرامته. وعلى الضد منه: سلوك سبيل المغالبة للدين، التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بسوء منقلبها، وقبح مآلها، فقال: «إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه» الحديث أخرجه الشيخان. والمعنى كما قال الحافظ في «فتح الباري» : «لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب. قال ابن المنير: في هذا الحديث علم من أعلام النبوة، فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع في الدين ينقطع، وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة؛ فإنه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدي إلى الملال، أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته كمن بات يصلي الليل كله ويغالب النوم إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل؛ فنام عن صلاة الصبح في الجماعة». ولا عجب إذن أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم الحريص على الأمة، الرؤوف الرحيم بها، من كمال الحرص على تحذير الأمة من الغلو في الدين؛ فقد كان سبب هلاك من قبلنا، كما جاء في سنن النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما في حجة الوداع لما أمره أن يلقط له الحصى لرمي الجمار، فجاءه بها مثل الخذف، فقال صلى الله عليه وسلم : «بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» أخرجه النسائي بإسناد صحيح. فيا لسعادة من التزم هذا الهدي النبوي، والطريق المحمدي، والمنهج الوسطي، الذي اختصت به هذه الأمة، وامتازت به على غيرها من الأمم.. * إمام وخطيب المسجد الحرام.