عرّف وزير الحج الأسبق الدكتور محمود بن محمد سفر مفهوم “الاعتدال” بأنه يحوي معاني العدل، والتوسط، والقصد، والقِسْط، والتوازن، والوسط بين التفريط والإفراط، والقوام، والاستقامة، وأن هذه كلها مفاهيم لمعاني تدل على التوسط بين شيئين، وعدم الميل إلى أحدهما، ولكلٍ من هذه المعاني مجاله، فالاعتدال بمفهوم العدل يعنى التزام الفرد والمجتمع والأمة بأسرها به كقيمة فاعلة وسامية تعشقها النفوس السوية، وهو بهذا المعنى يكون أيضاً حافزاً للعمل ودافعاً للجهد ومدعاة للتضحية ومقوياً للفعاليات ومحافظاً على الحقوق، حيث يؤدي كل فرد في المجتمع واجبه من دون خوف من أن يسرق أحد جهده أو يصادر آخر حريته أو يعتدي ثان على حرمته أو يستولي إنسان على ممتلكاته. جاء ذلك خلال المحاضرة التي ألقاها يوم أمس الأول بنادي المدينةالمنورة الأدبي، والتي كانت بعنوان “الاعتدال ونواقضه.. مفهوم حضاري”. البداية الصحيحة وفي بداية المحاضرة قال الدكتور سفر: دعونى ابدأ الحديث عن الاعتدال ونواقضه من البداية الصحيحة بالأخذ بما يلتزم الأصوليون به بضرورة تعريف مصطلحات القضايا التى يودون التحدث عنها، وأن يضعوا لها مفاهيم يتقيّدون بها في حديثهم فيها، لتأتي النتائج مقيدة بالمفاهيم ومرتبطة بالتعاريف، وأنا لست في حل من أن لا أحذو حذوهم في ذلك، فتكون البداية الصحيحة في عرض موضوع المحاضرة هو تعريف الاعتدال معنىً ومبنىً للحديث فيه، وعن نواقضه، فالاعتدال في اللغة الاستقامة، واستقامة الشيء تعني أنه استوى واعتدل، وهو يعني أيضاً التوسّط، وقد ورد في لسان العرب لابن منظور أن الاعتدال توسّط حال بين حالين في كم وكيف، كقولهم جسم معتدل بين الطول والقصر، وماء معتدل بين البارد والحار، ويوم معتدل طيب الهواء. الاعتدال بمفهوم العدل فالاعتدال بمفهوم العدل: يعني التزام الفرد والمجتمع، بل والأمة بأسرها به كقيمة فاعلة وسامية تعشقها النفوس السوية، وتطمح إليها الضمائر الأبية، وهو بهذا المعنى يكون أيضاً حافزاً للعمل، ودافعاً للجهد، ومدعاة للتضحية، ومنشطاً للهمم، ومقوياً للفعاليات، ومحافظاً على الحقوق، حيث يؤدي كل فرد في المجتمع واجبه من دون خوف من أن يسرق أحد جهده، أو يصادر آخر حريته، او يعتدي ثان على حرمته، أو يستولي إنسان على ممتلكاته. و“الاعتدال” هدف نبيل تسعى كل أمم الدنيا لتحقيقه وغاية كبرى تحاول كل شعوب الأرض الانتهاء إليها، ويتجلى الاعتدال بمعنى العدل في الحالات البشرية، وفي الأبعاد الإنسانية من خلال كثير من المواقف، مثل: الغضب والرضى، وعدم الأثرة للأقرباء على حساب الغرباء، وعدم التسرع في الحكم على الأمور بدون توثق، وغير ذلك من الصور والمواقف التى يقف معها الاعتدال بمفهوم العدل ثابتاً، ليقيم الموازين أمام الأهواء النفسية والرغبات الذاتية. الاعتدال بمعنى العدل * الاعتدال بمعنى العدل: لا دين بعينه يحتكره، ولا وطن بذاته يحتويه، ولا يحمل جنسية محددة يتميز بها، وهو لكل الأديان غاية، وفي كل الفلسفات هدف، وله في كل الأوطان مستقر، وفي كل البلدان مقام، وفي النهاية فالإنسان العدل هو من تغلب حسناته على سيئاته. ويحضرني في هذا السياق حديث نبوي كريم عن الرسول العظيم عليه الصلاة والسلام الذي ورد فيه قوله: «ثلاث منجيات: العدل في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وخشية الله في السر والعلن» أو كما قال عليه السلام. والملاحظ هو فيما ورد في نهايته عن خشية الله في السر والعلن، من حيث إن خشية الله هي مفتاح كل عمل في مواجهة الحياة وشؤونها، واعتبارها المعيار الدقيق للاعتدال بجميع مفاهيمه ودلالاته ومعانيه. الاعتدال بمفهوم الاستقامة وزاد الدكتور سفر: الاعتدال بمفهوم الاستقامة يعني السير على الطريق السوي وعدم الانحراف عنه، والوقوف ضد التطرف وما ينبثق عنه أو يقود إليه كالغلو والعنف والتشدد والإرهاب وما إليهم، فلا يقبل بهم ولا يستسلم لهم، ولنا أن نتوقف قليلاً عند التطرّف لنفصل الأمر فيه ولنبيّن كيف يقف الاعتدال في طريقه ليعيده إلى الجادة، والتطرف أنواع، منه ما هو انحراف في السلوك، ومنه ما هو اعوجاج في الفكر، فالتطرف السلوكي هو انحراف عن الدرب السوي في التعاملات والتصرفات مثل اللجوء إلى الرشوة قبضاً أو دفعاًً وممارسة أي شكل من أشكال الفساد المالي والأخلاقي وارتكاب المحرمات وما ينبثق عنها ويعود إليها، وأما التطرف الفكري فيمكن تصنيفه إلى نوعين: تطرف الفكر الديني، وتطرف الفكر التغريبي. الويل من الفكرين المتطرفين وتابع قائلاً: الويل ثم الويل لمجتمع يعيش تحت انقسام بين تطرف فكر ديني، وتطرف فكر تغريبي وتجاذبهما، عندما يدّعي أصحاب كل من الفكرين المتطرفين أنه يمثّل المجتمع ويملي عليه أفكاره ويحدد له نهجه، لأن مثل هذا التجاذب يعيق المجتمع ويمنع تطوره، ففي حالة مجتمع يسيطر عليه تطرف الفكر الديني، تكون السيطرة فيه على المجتمع عادة بدعوى أن الغاية منه هي الحرص على أن يتمسك المجتمع بأهداب الدين وبالقيم الإسلامية وهي غاية نبيلة يتفق عليها كل مسلم ولكن ما يشوه مقاصدها ويشوش على معانيها هو الإصرار على أن تبدو من مظاهر الفكر الديني المتطرف، التشدد، والتضييق، والغلو، والانغلاق، والادعاء باحتكار الحقيقة المطلقة والرفض لقبول الرأي الآخر بل وتسفيهه وتحقيره. الدين والفكر الديني كما أن هناك فرقا بين الدين والفكر الديني، فالأول تشريع رباني، والثانى جهد بشري. الأول يؤخذ بكلياته عبر ثوابته برفق فالمؤمن مأمور حسب القول المأثور «أوغل فيه برفق، فما صارع الدين أحداً إلا صرعه»، والثاني تُناقش تفصيلاته لتتحور وتتعدل وتتبدل وتتغير تبعاً للزمان والمكان بلا حرج أو مندوحة. وأكد الدكتور محمود سفر أن الاعتدال في الدين مطلوب، ويتضح في تأكيد مفهوم الالتزام بالوسطية والتحذير من الغلو والتقصير، وقد ورد في كثير من النصوص، فنجد أن الإفراط والتفريط مذمومين في الدين، ولا بد من التوسط بينهما، وقد قال الحسن البصري رحمه الله: “الدين واسطة بين الغلو والتقصير”، وقد ساق «الشاطبي» رحمه الله في «الموافقات» طائفة من أدلة هذا المفهوم حيث قال: ... كان (هذا) المفهوم من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأكرمين، وقد رد عليه الصلاة والسلام التبتل.. وقال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه لما أطال الصلاة : «أفتان أنت يا معاذ».. وقال: «إن منكم منفرين».. وقال: «سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا وشيء من الدلجة والقصد القصد تبلغوا».. وقال: «عليكم من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا».. وقال: «أحب العمل إلى الله ما دام عليه صاحبه وإن قل» وتطرّف الفكر الديني ينعكس في النظرات الضيقة والرؤى الأحادية والفكر المنغلق، وكل ذلك يقود دوماً الى العزلة والتطرف، ويدحض سماحة الإسلام ويشوه صورته الناصعة، ولابد لنا أن نعترف لأنفسنا بأنفسنا أن بعض الأفراد من أصحاب الفكر الديني المتشدد قد يلجأ بحسن نية إلى التضييق في الفتوى والتزمت في التفسير والتشدد في التعامل ويردد آراءً لا تستقيم مع العقل ولا تتماشى مع طبيعة العصر ويتبنّى أفكاراً بعيدة عن المنطق، ولذلك من حقنا أن نسأل اولئك بلهفة وإشفاق: أما آن لكم أن تدركوا التأثيرات غير الحميدة التى تتركونها عند الغير بأفكاركم الدينية تلك التى ليست من ثوابت الدين ولكنها اجتهادات فردية، فتنصرفوا عنها لتوفروا على أمتكم اللجاجة والمماحكة؟!! ننصحكم بالنظر في أمور الحياة بإيجابية واعتدال والتعامل معها باستبشار وتوسط وأن تحسنوا الظن بالناس، ذاك ما سيكون عليه حال المجتمع عندما يسيطر عليه الفكر الديني المتطرف. وأما البحث في حالة مجتمع يسيطر عليه تطرف الفكر التغريبي بمعنى أن يؤمن المجتمع إيماناً تاماً بالأفكار والرؤى الغربية والتزامه بتطبيقها، والتسليم بها وبكل ما يأتي من الغرب، ومعاداة ما سواه. لا وألف لا فيلحظ المرء أن استيلاء التطرف الفكري التغريبي على المجتمع وسيطرته عليه يكون عادة بحجة الأخذ به إلى مدارج التطور والتقدم للوصول به إلى العالم الأول، أو بدعوى النهوض به والصعود معه إلى قمم المجد والإبداع، أو بذريعة الانفتاح على العصر والتناغم مع حضارته، وكل هذه أهداف تبدو برّاقة وجميلة وجذابة ومقبولة ولا اعتراض عليها إذا لم تكن على حساب الدين والقيم، أما أن يدفع المجتمع ثمناً للتغريب من تفريطه في دينه وجعله حبيس المسجد لا يُمارس إلا كل يوم جمعة وعزله عن المعاملات اليومية الحياتية مثل ما فعلوا في الغرب،بعزل المسيحية عن مسيرة الحياة في مجتمعاتهم، والاكتفاء بزيارة الكنيسة كل يوم احد لمن أراد... نقول إن كان ذاك هو ثمن التقدم والتطور فلا وألف لا. الحل في الاعتدال والوسطية والنتيجة المؤكدة لهذا هي أن المجتمع سوف يجد نفسه منغمراً في متاهات التغريب التى تبعده عن أصالته وتفقده شخصيته وتسلب من أفراده هويتهم العقائدية وتسلخ منهم انتماءهم الإسلامي، وكل ذلك بدون مردود يفخرون به، وبمقابل يندمون عليه. تلكم كانت حالة المجتمع الذى يسيطر عليه الفكر الديني المتطرف، وكذلك حالته بعد ما يسمح للتطرف الفكري التغريبي أن يسيطر على مجريات الحياة فيه، وفي كلتا الحالتين يفقد المجتمع حقيقته ويضيع كيانه إما بالانعزال والانطواء والتخلف في حالة سيطرة الفكر الديني المتطرف، وإما بالتفسخ والضياع في حالة سيطرة الفكر التغريبي المتطرف، وكلتا الحالتين أحلاهما مر . الحل الأمثل -إذاً- هو في الاعتدال والوسطية عند السير في دروب الالتزام الديني والنهوض الحضاري، فالاعتدال هو -بلا ريب- فضيلة من الفضائل الإنسانية الأساسية الملازمة لأصحاب الهمم العالية والأخلاق السامية، والوسطية ميزة من المميزات الحضارية التى تتحلى بها الأمم السوية و تتمسك بها وتسير عليها. --------------------------------- لقراءة الجزء الثاني: http://www.al-madina.com/node/227417