أبان فقيه متخصص في العلوم الشرعية أن مخالفة العالم لغيره من العلماء في عدد من المسائل الشرعية والفقهية تكون على درجات تفرد أو الشذوذ او الزلة، موضحاً ان التفرد هو أن يستند الى دليل قوي، أما الشذوذ فيستند الى دليل ضعيف مخالفاً الادلة والقواعد، اما الزلة الاستناد الى حجة ساقطة غير معتبرة مخالفاً بذلك الأدلة ومعاقد المذاهب، وتسمى حجته فاسدة الاعتبار، مورداً فضيلته أمثلة لكل واحد على حدة. جاء ذلك في مستهل حديث فضيلة الدكتور خالد بن عبدالله بن علي المزيني عضو هيئة التدريس بقسم الدراسات الاسلامية والعربية بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن بالظهران في ندوة بعنوان : (الفتيا المعاصرة مراجعات فقهية) استضافها (منتدى العُمري) في مقره بحي الفلاح شمال مدينة الرياض. تفرد العال مومثل فضيلته على تفرد العالم : بقول احمد بن حنبل رضي الله عنه بنقض الوضوء من لحم الابل، والشذوذ: اباحة الغناء، والزلة، اباحة كشف المرأة شعرها، وتوليها القضاء، واباحة الفوائد، وقال : ان سبيل الاجتهاد واسع، وفيه خطوط هي النصوص والأدلة، وحول النصوص هالات، هي التأويلات السائغة، فهناك مجتهد مصيب من أخذ بدليل راجح، ومجتهد مخطىء من أخذ بدليل مرجوح، وله تأويل سائغ، وشاذ من خالف الجماعة بتأويل ضعيف سائغ، وزلة من له تأويل سائغ، بل ساقط، والحق الاخذ بالصواب، واجتناب الزلات، وعدم الاحتجاج بالخلاف، الخطابي الاحتجاج بالخلاف خطأ فاحش، صح عن عمر ابن الخطاب : ثلاث يهدمن الدين : زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وائمة مضلون). تعريف الفتوى وعرف فضيلته الفتوى في اللغة والاصطلاح وقال : اما الفتيا في اللغة هي : بيان الشيء يقال أفتى الفقيه في المسألة إذا بين حكمها وتجمع على فتاوى وفتاو والجمع فتاوي بالياء على الاصل وهو الافصح وقيل : يجوز الفتح للتخفيف والتعبير بكلمة (فتيا) افصح من التعبير ب (فتوى) وأما اصطلاحاً هي : الاخبار بالحكم الشرعي بدليله لمن سأل عنه. تجهيز الفتيا وقال د. المزيني : إن تجهيز الفتيا يمر بمرحلتين الاولى : صناعة الفتوى: وحقيقتها اعمال الآلة الفقهية في اعداد الفتوى وآلات الفقه هي أدلة الفقه وقواعد الاستنباط والثانية : سياسة الفتوى: وحقيقتها اعمال آلة السياسة الشرعية في اعداد الفتوى واعني بها تزود الباحث بأدلة السياسة الشرعية وهي الادلة التبعية كقاعدة الذرائع والمصلحة المرسلة والاستحسان وهي اصعب المرحلتين قال ابن حيان في ترجمة ابن حزم : وأكثر معايبه جهله بسياسة العلم، التي هي أعوض من اتقانه، وكل صناعة لها اصولها المرجعية ومعاييرها التي تمتحن بها الاقاويل ومعايير الفتيا : الادلة الشرعية، بها تسبر الاقوال والاراء، كما تسبر آراء المهندسين بالمسطرة والفرجار والحاسبة والمتصدر للفتيا دون مراعاة لقوانينها ينكشف زيفه اذا كثر تجاوزه لتلك القوانين. التشديد البالغ مستقبح وتطرق فضيلته الى منهاج الفتيا المعاصرة وقال : انها تشديد وتساهل وتوسط وبين التشديد والتساهل تضطرب صناعة الفتوى لأن المشدد ينظر بمنظار المحتسب والمتساهل ينظر بمنظار المحامي، المحتسب يأخذ الناس بعزيمة السلطة ورهبة الغلظة ويطلب منه حسم مادة الفساد، وله ان يحلف اهل الريبة، ويأخذهم بسد الذريعة ولو بعدت والمحامي يتحرى تبرئة موكله ويبحث في الوقائع عما عساه ان يخلي ساحة الموكل وتصريف الفتيا وسط بين هاتين فلا ينزع الى جفاء الغلظة ولا الى تسامح المحاماة، ومحاباة الوكلاء فالتسهيل الزائد مستبرد والتشديد البالغ مستقبح، والمرجع في هذين ادلة الشرع بنظر اهل الاجتهاد.وعن التشديد في الفتوى قال الشيخ خالد المزيني اذا نظرنا في جملة تكاليف الشريعة نجد انها قد قصدت الى السماحة واليسر، وناطت عامة أحكامها بالقدرة والاستطاعة والوسع والطاقة لكن قُدر حصول الشدة في بعض مواردها فليس ذلك لكونه مقصوداً اليه بالذات بل لما يستلزمه ذلك التكليف من معاني الرحمة والرفق بالمكلف، والا فإن الرفق المحض عزيز في الوجود، عن ابي موسى الاشعري رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا بعث احداً من أصحابه في بعض أمره قال : بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا، وعن ابي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ان الدين يسر ولن يشاد الدين احد الا غلبه فسددوا وقاربوا وابشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة والمشادة: التشدد وبناؤه على المفاعلة للدلالة على المغالبة، قال ابن المنير : في هذا الحديث علم من أعلام النبوة، فقد رأينا ورأى الناس قبلنا ان كل متنطع في الدين ينقطع.. هذه النصوص دالة على أن هذه الشريعة المباركة يقصد بها ايلاف المكلفين على الحق، والرفق بهم، والتيسير عليهم والفقيه الحق هو الذي يقف على مواطن العزائم ومواطن الرخص فيضع كلا منها في موضعه الاوفق. مظاهر التشدد وتحدث الدكتور خالد المزيني عن مظاهر التشدد في الفتيا المعاصرة، فقال : انها تتجلى في المبالغة في الاحتياط والغاء الحاجات المرعية والمبالغة في سد الذرائع.. مسهباً فضيلته الحديث عن كل مظهر على حده، متناولاً فضيلته منهج التساهل في الفتوى، ويقصد به : الافتاء بالاسهل على الدوام ولو قويت الشبهة ثم عرض مظاهر التساهل .. ومبيناً ان التخفيف على المكلفين أمر محمود في الشرع، بشرط عدم ضرب الشرع بعضه ببعض والا فإن التخفيف امر نسبي اذ لا خفيف في العالم الا وهو ثقيل. ثم تطرق فضيلته بعد ذلك الى منهج التوسط في الفتيا وقال : إن هذا هو النهج الأمثل وهذه المادة (الوسط) كيفما تصرفت لا تخرج في مدلولها عن معاني : العدل والفضل والخيرية والنصف والبينية كما تناول فضيلته مسألة تغير الفتيا ومعرفاً مفهوم التغير في الفتيا المعاصرة قائلاً: التغير التحول والتبدل ومن ثم سميت أحداث الدهر بالغير لما فيها من معنى التحول والصيرورة ومعنى التغير في الفتيا : ان ينتقل المفتي بالمسألة المعينة، من حكم تكليفي الى آخر كأن يفتي بالحل بعد الحرمة، او العكس او بالندب بعد الاباحة او التحريم بعد الكراهة وهكذا والاصح ان نقول : تغير الفتوى لا تغير الاحكام. المقامات العلمية وعن المقامات العلمية في الدين قال الدكتور المزيني لكل مقام من المقامات العلمية في الدين مقاصده الخاصة به ومراعاة التمايز بين هذه المقامات ضروري في انضباط القول في كل مقام والخلط بين هذه المقامات في الفتيا ينتج اغلاطاً، ولهذا أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من قال : ومن يعصمها فقد غوى، لأن مقام الخطبة غير مقام التعليم فهناك مقام الفتوى ومقام الحسبة ومقام الوعظ ومقام التعليم ومقام البحث ومقام القضاء ولاشك ان المقصود العام لهذه المقامات كلها اقامة الشرع ودلالة الخلق الى الله تعالى ثم يختص كل مقام منه بمقاصد خاصة به تراعى فيه رعياً اولياً قال العلماء : للعلم مراتب، ومن قدم رتبة على محلها حرم الوصول لحقيقة العلم من وجهها فاقتصر ولا تنتصر، وعلى سبيل المثال : لو قارنا بين مقامي الفتوى والحسبة، لوجدنا ان الفتيا مبناها على بيان الحكم الفقهي بالقصد الاول، ويحلظ فيها : توضيح الحكم الشرعي في النازلة واما الحسبة فمبناها على حسم مادة المنكر الظاهر بالقصد الاول ويلحظ فيها معنى الغيرة على المحارم، ومن ثم فللمحتسب من سعة الولاية، وسلاطة السلطة في المنكر الظاهر ما ليس للمفتي لأنها تقوم على الرهبة، فلا تجافيها الغلظة، كونها سلطة رقابية بالمفهوم الحديث فأما الفتوى فموضوعة لبيان الأحكام فكان الملائم لها الاناة والوقار، والبعد عن الغلظة والخشونة والترهيب ورعاية اليسر ورفع الحرج واشار اليه الطاهر بن عاشور في تفسير قوله تعالى : (وانا لجميع حاذرون) وللحسبة اهميتها فلابد من فتح قنواتها الصحيحة فهي السبيل الامثل لادارة الضغوط والمطالبات الايمانية في المجتمع فهي ضمانة لا عبء.وتناول الدكتور خالد المزيني في الندوة الاعتدال في اعمال القواعد السياسية وطي الاقوال المفضية للفساد، مورداً جملة من المسائل التي كان الائمة لا يفتون بها لأنها تحرك الفتنة او توقظ اصحابها ويمكن أن نصفها بأنها راجحة فقهاً، مرجوحة سياسة ومنها : تضمين الاجير المشترك عند الشافعي وحكم استبدال الوقف، ومن حلف ان يمشي الى بيت الله. ثم تحدث الدكتور خالد المزيني عن صيانة الفتيا عن الابتذال عارضاً بعض النماذج لذلك مثل : الترويج التجاري بواسطة الفتاوى وصيانة الفتيا عن الدخلاء والتشبت في الفتيا.وفي اطار تناوله لأدب المستفتي عرض عضو هيئة التدريس بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن نماذج من الاستفتاءات الخاطئة مثل : الاسئلة المتكلفة، الاسئلة المتعنتة والاسئلة الامتحانية، والاسئلة التقريرية والاسئلة العقيمة والاسئلة التحريضية والاسئلة الاعتراضية والاسئلة الالحاحية والاسئلة التغليطية.وقد ادار الندوة التي شهدها لفيف من اصحاب المعالي والفضيلة والسعادة من المفكرين والاكاديميين ومجموعة من المثقفين والاعلاميين فضيلة الدكتور عبدالله الزايدي عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة بالرياض وجاءت استمراراً للبرامج الثقافية والندوات واللقاءات العلمية التي دأب (منتدى العُمري) خلال الفترة الاخيرة على تنظيمها بمشاركة مجموعة من المتخصصين والاكاديميين في عدد من العلوم الشرعية والاقتصادية والاجتماعية بهدف تسليط الضوء على عدد من القضايا المهمة للمجتمع وكيفية التعامل معها، والتغلب على سلبياتها وتنمية ايجابياتها.