استكمالا لما كتبه الدكتور هاشم عبده هاشم عن حاجتنا الملحة لقراءة واقعنا بشكل مختلف لبعض مظاهر الاختلاف الموجودة نتيجة لازدواجية التفكير، ومنها المعاملات البنكية التي كانت بدايتها في ديار المسلمين قبل ألف وأربعمائة عام، وليس في بريطانيا في القرن السابع عشر لدى صاغة الذهب، فكافة المعاملات المصرفية الحديثة لها أصل في الشرع. فقد أجاز السلف استثمار ما تحت يد المرء من ودائع وأموال مضمونة بغير إذن صاحبها، وهذا التعامل هو من أعمال البنوك اليوم، ولقد كان الناس فيما ذكره القرافي (الذخيرة)، وابن تيمية (الفتاوى)، وابن قدامة (المغني)، يودعون أموالهم عند الزبير بن العوام، في مكة لسلامة الطريق أثناء الترحال أو لحفظ ودائعهم، وهذا من أعمال البنوك اليوم، وكان الزبير يحول الوديعة إلى قرض ليتسنى له الاتجار بها واستثمارها، ولتكون مضمونة لصاحبها. وربما أعاد القرض بزيادة غير مشروطة، وهو أمر مستحب، وكان هذا التعامل أمام الصحابة من غير نكير منهم. وكان الزبير يأخذ الوديعة من الحجاج والتجار في مكة، ويشترطون عليه استلامها في البصرة، فيكتبها لهم إلى ابنه هناك، وهو ما يعرف (بالسفتجة) في اصطلاح الفقهاء والحوالة المالية في اصطلاح العصر، وهذا من أعمال البنوك اليوم، وقد أجاز السفتجة عامة أهل العلم، رغم أنها قرض جر نفعا، لكن ابن تيمية اختار الجواز، الفتاوى (29/531)، بقوله: «والصحيح الجواز؛ لأن المقرض رأى النفع بأمن خطر الطريق.. وانتفع المقترض باستثمار القرض فكلاهما منتفع بهذا الاقتراض، والشارع لا ينهى عما ينفعهم ويصلحهم»، وقال ابن قدامة، المغني (5/354): «والصحيح جوازه؛ لأنه مصلحة لهما من غير ضرر بواحد منهما، والشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها، بل بمشروعيتها.. فوجب إبقاؤه على الإباحة»، كما أجمعوا على جواز أخذ حصة من العائد على رأس المال في استثمار الوديعة، ابن قدامة المغني 5/26 وابن تيمية الفتاوى 30/13 في قصة ابني عمر بن الخطاب بعد عودتهم إلى المدينة بأموال المسلمين من الكوفة فتاجروا بها وربحوا، فاقترح الصحابة تقسيم الربح بين بيت مال المسلمين وبينهم مناصفة لقوله عليه الصلاة والسلام: (الخراج بالضمان)، وهذا أصل يمكن أن يرجع إليه من يرى جواز أخذ العائد على استثمار الودائع في البنوك الآن. هناك فرق واحد بين المعتبر والملغي من هذه المعاملات، وهو شرط الزيادة، وعامة البنوك لا تورده في صلب العقد فهل يصح أن يحكم عليه البعض بالبطلان والتشهير بأن هذا تعامل بالربا؟ وأن هذا بنك ربوي وذاك إسلامي؛ لأن العقد إذا لم يكتنفه شرط الزيادة لا يصح نعته بهذه الصفة، بل العقد صحيح، (ابن تيمية الفتاوى 20/266). كما أن في كلمة بنك إسلامي وربوي معاني المجاهرة بالكبائر، وهو أمر مذموم منهي عنه، يكتنفه معاني الإقرار والرضا بهذا الشيء وهو من الكبائر المعلوم تحريمها من الدين بالضرورة. فالواجب حمل تصرفات الناس على الصلاح وحسن الظن أكده ابن عابدين في حاشيته 3/457. حتى أن هذه البنوك أوردت هذا الشرط صراحة، فهل يحرم التعامل معها وشراء أسهمها؟!. لقد كان الصحابة يعملون في مزارع وتجارة اليهود في المدينة وخيبر، مع ما هو معروف عنهم من تعاملهم بالربا، بل كان الرسول عليه الصلاة والسلام يتعامل معهم بالبيع والشراء والإيداع والرهن، فلا يحجر مالهم الحرام من التعامل معهم، بل قد أجاز القرآن مخالطتهم والتزاوج منهم وأكل أطعمتهم، مع ما هو معروف عنهم من سوء العقيدة، فلو طرح أي بنك جزءا من رأس ماله للاكتتاب والجزء الآخر تعامل به مع البنوك الخارجية وأودعها بفوائد فهو مثل التعامل مع من عرف أن ماله خليط من الحلال والحرام، بل إن اقترض البنك خارج ديار المسلمين فلا يجري الربا في ماله لحديث مكحول. ولذلك رد ابن تيمية، الفتاوى (29/272)، دعاوى تحريم التعامل مع من عرف عنهم التعامل بالربا بقوله «..... الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها ورجحت خير الخيرين بتفويت أدناهما، ودفعت شر الشرين بقبول أخفهما..»، فلا يستغني الناس عن ما يستجد في حياتهم وارتباطاتها بمصالحهم، وألا يعمد المرء إلى التحريم والتجريم لأدنى ظاهرة، بل يجب حمل تصرفات الناس على الصلاح والتقوى وحسن الظن بهم. ويؤكد الدكتور هاشم (أن في المملكة (12) بنكا تخضع لأنظمة الدولة ولها دور فعال في تنمية الاقتصاد الوطني والحفاظ على قدرة وكفاءة الدولة والمجتمع المالية، وإذا كان هناك حاجة إلى مزيد من التنظيم، فإنها يمكن أن تتم حول نسبة الفائدة التي تستحقها)، وهذه قد أجازها مجمع الفقه الإسلامي في عام 1406ه في دورته الثالثة للبنك الإسلامي للتنمية باستيفاء زيادة 3% في القروض التي يجريها البنك للمقترضين منه لتغطية تكاليفه لإجراء القروض ومتابعة السداد ورواتب الموظفين والخدمات وغيرها. فطالما أن ولي الأمر أقر قيام هذه البنوك لمصلحة يراها انطلاقا من مقاصد الشريعة للحفاظ على الكليات الخمس، ومنها المال، فلا يصح أن نشكك الناس في أمر لهم مصلحة فيه.