درج بعض الكتاب في بعض صحفنا، وكذلك ما ورد في مسلسل (طاش ما طاش) من أن فوائد القروض التي كانت من الربا المحرم هي من الذهب والفضة والتعامل بالنقود الورقية فلا ينطبق التحريم عليها. أقول: في عصرنا يحترم التخصص الدقيق في كل المجالات إلا مجالين أشدهما الدين والسياسة وأخطرهما الدين ومجال الافتاء؟! وعندما كان القاضي العدل يحجر على المفتي الماجن الذي يحل الحرام لم يكن آنذاك ما نراه في عصرنا، وكذلك الحال عندما كان اجتناب الشبهات فضلا عن الحرام ديدن الناس فإنا لله وإنا إليه راجعون. وعندما يتعرض للإفتاء من ليس أهلا له يمكن أن يبطل الشرع ويقع في أخطاء جسيمة، وقد يحل ما حرم وعلم ضرورة من الدين، وبقدر ما يتسع له في هذا المجال الضيق أضرب مثلا بفتوى لمتخصص اقتصادي وقبله مستشار قانوني لمؤسسة النقد سابقا أرادا أن يحلا فوائد البنوك، والقانون ينص على أن ودائع البنوك عقد قرض. فكيف يحل فوائد القرض التي أباحها القانون في مقابل الزمن والتحريم معلوم من الدين بالضرورة؟! قالا «إن فوائد القروض التي كانت من الربا المحرم إنما هي من الذهب والفضة ونحن نتعامل بنقود ورقية فلا ينطبق التحريم عليها». ويريد حديث الأصناف المشهور: الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد». وهذا القول يدل على أمور منها: الأول:عدم العلم بأصول الفقه؛ فإن إلحاق النقود الورقية بالذهب والفضة أو عدم إلحاقهما ينظر فيه للقياس أو دلالة الخطاب ومفهوم الموافقة. وإما أن يحتج بما يعرف بمفهوم المخالفة فلا يجوز عقلا ولا شرعا.- أي الذهب والفضة فقط فيهما الربا فعداهما يصلح فيه الربا- لأن الأصناف الستة داخلة تحت ما يعرف باللقب ولا يجوز الاحتجاج بمفهوم اللقب إلا عند الظاهرية وبعض الشيعة، ولا يجوز أبدا بالاحتجاج بمفهوم المخالفة في هذه الحالة وأي قارئ لأصول الفقه يعرف هذا- أي يعرف بطلان الاستدلال بمفهوم المخالفة في اللقب - -الثاني: عدم الفهم لكتاب الله؛ فقوله تعالى «وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم « فهذا بيان لتحريم ما زاد على رأس دون اشتراط أن تكون الزيادة من الذهب والفضة. وقد تقرر أن من قواعد الشرع تحريم أكل أموالنا بيننا بالباطل وأن الله ذم الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل وذم اليهود على أخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل. وهذا يعم كل ما يؤكل بالباطل في المعاوضات والتبرعات وما يؤخذ بغير رضا المستحق والاستحقاق. وأكل المال بالباطل في المعاوضة نوعان، ذكرهما الله في كتابه هما : الربا، والميسر. فذكر تحريم الربا الذي هو ضد الصدقة في آخر [سورة البقرة] و[سورة آل عمران] و[الروم] و[المدثر]. وذم اليهود عليه في [سورة النساء] وذكر تحريم الميسر في [سورة المائدة]. الثالث: وهو الأهم وقاصمة الظهر أن من تصدى للفتوى هنا لا يعرف الفرق بين ربا البيوع وربا القروض. فبيع الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة يشترط فيه عدم الزيادة وعدم تأخير قبض أي من العوضين فإن كانت هناك زيادة مع القبض فهذا ربا الفضل، وإن لم يتم القبض فهو ربا النسيئة سواء اشتمل على ربا الفضل أو لم تكن فيه زيادة. أما بيع الذهب بالفضة فلا يشترط فيه التساوي ولكن لابد من التقابض كما روى الشيخان الذهب بالورق أي العملة الفضية ربا إلا ها وها»أي خذ وهات فإن لم يتم القبض فهو ربا النسيئة واختلف الفقهاء فيما يلحق بالأصناف الستة ويأخذ حكمها في حالة البيع ويعد من الأموال الربوية؛ فإذا لم تتوافر الشروط المذكورة آنفا كان ربا الفضل أو النسيئة. وقد أفتت كل المجامع الفقهية بأن النقود الورقية لها ما للذهب والفضة من الأحكام. ففي الدورة الثالثة لمجمع الفقه الإسلامي الدولي سنة 1407 صدر القرار التالي «أحكام النقود الورقية» بعد الاطلاع على الأبحاث الواردة إلى المجمع بهذا الموضوع قرر المجمع بخصوص أحكام العملات الورقية أنها نقد قائم بذاته لها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا والزكاة والسلم وسائر أحكامها ،والعلة في ذلك مطلق الثمنية. وفي الدورة الخامسة لمجمع الإسلامي الدولي سنة 1409 صدر قرار آخر: بعد الاطلاع على البحوث المقدمة من البحوث والخبراء في موضوع تغير قيمة العملة واستماعه للمناقشات التي دارت حوله. وبعد الاطلاع على قرار المجمع رقم 9 في الدورة الثالثة بأن العملات الورقية نقود اعتبارية فيها صفة الثمنية كاملة ولها أحكامها الشرعية المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا والزكاة والسلم وسائر أحكامها. كما صدر قرار من مجمع الفقه الإسلامي التابع للرابطة في دورته الخامسة 1402ه القرار السادس حول العملة الورقية....فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي قد اطلع على البحث المقدم إليه في موضوع العملة الورقية وأحكامها من الناحية الشرعية وبعد المناقشة والمداولة بين أعضائه قرر ما يلي: إنه بناء على أن الأصل في النقد هو الذهب والفضة، وإن كان معدنهما هو الأصل وبما أن العملة الورقية أصبحت ثمنا وقامت مقام الذهب والفضة في التعامل بها، وبها تقوم الأشياء في هذا العصر- وتطمئن النفوس بتملها وادخارها ويحصل الوفاء والإبراء العام بها رغم أن قيمتها ليست في ذاتها وإنما في أمر خارج عنها وهو حصول الثقة بها كوسيط في التداول والتبادل، وذلك هو سر مناطها بالثمنية. وحيث إن التحثيث في علة جريان الربا في الذهب والفضة هو مطلق الثمنية وهي متحققة في العملة الورقة؛ لذلك كله فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي يقرر : أن العملة الورقية نقد قائم بذاته له حكم النقدين من الذهب والفضة فتجب الزكاة فيها ويجري الربا عليها بنوعيه فضلا ونسيئة، كما يجري ذلك في النقدين الذهب والفضة تماما باعتبار الثمنية في العملة الورقية قياسا عليهما. وبذلك تأخذ العملة الورقية أحكام النقود في كل الالتزامات التي تفرضها الشريعة الإسلامية....إلخ. كما أن مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر قد بحث سنة 1385-1965م موضوع الفوائد في البنوك وتوصل إلى أنها من الربا المحرم، وبالتالي فالأوراق النقدية نقد قائم بذاته. فهذه المجامع الثلاثة المتخصصة هي أهل الذكر في هذا المجال يتبين هذا من أهدافها وتكوينها وطريقة اجتهادها ومراجعة أعمالها ومؤتمراتها. والأصل في الاجتهاد الجماعي أنه لا ينقض، وإذا جاز نقضه فلا يكون إلا باجتهاد جماعي أكبر منه أو مثله على الأقل، فلا يجوز أن يكون أقل من حجمه وقدره، فضلا عن أن يكون اجتهادا فردا لأي أحد في عصرنا كائنا من كان. ولا يجوز الاحتجاج بما صدر قبل عامين ونيف من مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر بشأن الفوائد الربوية وذلك لما يلي: 1-أن عدد الأعضاء المجتمعين كان ثلاثة عشر عضوا فقط. كان منهم فقيهان هما الأستاذ الدكتور محمد رأفت عثمان والأستاذ الدكتور عبد الفتاح الشيخ وقد اعترضا على القرار، وأما البقية فأحدهما في الحديث واثنان في التفسيروالبقية في العقيدة والفلسفة. والاجتماع غير قانوني لأن عدد أعضاء مجمع البحوث الإسلامية أكثر من أربعين عضوا من داخل مصر وخارجها. والمفترض أن لا يقل الحضور عن الثلثين فأكثر. والاختلاف هنا إنما هو في حالة البيع فقط أما في القرض فلا خلاف في تحريم أي زيادة مشروطة في العقد، ولا يقتصر هذا على الأصناف الستة وما يلحق بها وإنما هو في كل شيء. قال مالك في المدونة 4/ 25 «كل شيء أعطيته إلى أجل فرد إليك مثله وزيادة فهو ربا» وقال ابن رشد الجد في مقدماته ص507»وأما الربا في النسيئة فيكون في الصنف الواحد وفي الصنفين أما في الصنف الواحد فهو في كل شيء من جميع الأشياء ولا يجوز واحد باثنين من صنفه إلى أجل من جميع الأشياء» وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى ج29/ 535» وليس له أن يشترط الزيادة عليه في جميع الأموال، باتفاق العلماء» وأهل الظاهر الذين خالفوا الجمهور فوقفوا عند الأصناف الستة في البيع لم يخرجوا على الإجماع في القرض. قال ابن حزم في المحلى 9/ 509»والربا لا يجوز في البيع والسلم إلا في ستة أشياء فقط في التمر والقمح والشعير والملح والذهب والفضة وهو في القرض في كل شيء، وهذا إجماع مقطوع به» فانظر لحكايته الإجماع. وقال ابن قدامة في المغني 4/ 360 «كل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرام بغير خلاف» وقال ابن المنذر «أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستسلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك أن أخذ الزيادة على ذلك ربا». وقال القرطبي في تفسيره 3/ 241»أجمع المسلمون نقلا عن نبيهم -صلى الله عليه وسلم- أن اشتراط الزيادة في السلف ربا ولو كان قبضة من علف، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه أو حبة واحدة» وفي نهاية المحتاج 4/ 225 «ولا يجوز قرض نقدا أو غيره أن يقترن بشرط رد زيادة على القدر المقترض». وقد تقرر عند القانونيين والاقتصاديين على أن ودائع البنوك عقد قرض باتفاق بينهم. وقد يعجب كثير منهم عندما يسمعون أن ودائع البنوك أو شهادات الاستثمار تعتبر قرضا فالقرض من الغني للفقير وصاحب شهادة الاستثمار قد يكون هو الفقير الذي ادخر أموالا قليلة بشق الأنفس للانتفاع بها بوقت آخر، فكيف يقرض البنك صاحب الملايين وعامة الناس معذورون في هذا الفهم وخاصتهم قد يعذرون، وقد لا يعذرون وقبل إزالة تلك الشبهة نقرر للقارئ المسلم ما يلي: قصة الزبير لما قتل ترك مالا كثيرا ووفيرا ووجدوا عليه دينا كبيرا وقد أشار البخاري في الصحيح لتلك التركة، وذلك الدين وكثير غيره كما في الفتح وذكرها ابن كثير في البداية والنهاية، قال لما قتل وجدوا عليه من الدين ألفي ألف ومائتي ألف فوفوها عنه. وأخرجوا ثلث ماله الذي أوصى به. ثم قسمت التركة بعد ذلك فأصاب كل واحدة من زوجاته الأربع ربع الثمن ألف ألف ومائتي درهم. فيكون جميع ما تركه من الدين والوصية والميراث تسعة وخمسين ألف ألف وثمانمائة ألف. ومعنى هذا أن تركة الزبير كانت كالآتي: -مجموع الزوجات الأربع أربعة ملايين وثمانمائة ألف. والزوجة والزوجات نصيبهم ثمن التركة فتكون التركة المقسمة على الورثة ثمانية وثلاثين مليونا وأربعمائة ألف. وهذا يعادل الثلثين؛ حيث أوصى بالثلث ومقداره تسعة عشر مليونا ومائتا ألف. وبهذا تكون التركة بعد الديون 57 مليونا وستمائة ألف درهم. وهنا سؤال من يملك هذه الثروة الضخمة كيف يستدين هذا الدين؟! وقد ورد في البخاري «إنما كان دينه الذي عليه أن الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه فيقول الزبير لا لكنه سلف فإني أخشى عليه الضيعة» وموطن الاستدلال :أن الذي جاءوا بالأموال أرادوا حفظها عند الزبير أرادوها أن تكون وديعة فطلب منهم أن تكون سلفا لا وديعة ونعرف الفرق بين الوديعة والقرض فالوديعة لا يضمنها المودع لديه لأنها إرفاق والقرض يضمنه المقترض، ولذلك قال أخشى عليه الضيعة أي يكون ضامنا باعتباره مقترضا ويقابل هذا الضمان أن يكون من حقه الاستفاده من هذا المال المقترض فيخلطه بماله في التجارة وغيرها أما الوديعة فتبقى كما هي لا يستفاد منها. وهذا هو صورة التعامل في البنوك. ومما يؤكد ذلك: أن القرض ليس في جميع الحالات عقد إرفاق، وإن كان الأصل فيه أنه عقد إرفاق لكن أحيانا يكون لمصلحة المقرض كمسألة إقراض الولي مال اليتيم بقصد حفظه من الضياع أو خوف غرق أو خوف هلاك من نهب وغيره أو يكون مما يتلف بتطاول مدته أو يكون حديثه خير من قديمه الحنطة والتمر ولا يجوز إقراضه إلا لمليء أي غني فهذه مصلحة للمقرض فالإقراض للرفق باليتيم المقرض لا المقترض ومصلحة اليتيم لا مصلحة المقترض، والمراد الإيداع غير أن الوديعة لا تضمن ففضل الإقراض لغني أمين حتى يحفظ اليتيم لا لصالح الغني. فكذا ما فعله الزبير لم يكن لمصلحته وهو المقترض بل لمصلحة المقرض خوف ضياع ماله إن كان وديعة. ومن أراد الإيداع للاستثمار عن طريق الفائدة المحددة كودائع البنوك الربوية وشهادات الاستثمار فالإيداع عود للقرض الإنتاجي الربوي الذي كان شائعا في العصر الجاهلي، وكان وسيلة من وسائل الاستثمار. ويجب الالتفات إلى أن الثمنية ليست محصورة في الذهب والفضة فإن القرض ممنوع في كل شيء، ومما يؤكد أن الثمنية ليست محصورة في الذهب والفضة أن بعض الأنواع كانت تعتبر ثمنا بنفسها كالبعير كان يشتريه ابن عمر بالبعيرين فالبعير صار ثمنا في نفسه فلا تحصر الثمنية في الذهب والفضة. كما أن النقود صارت مثل الذهب والفضة تماما بتمام. أنه لايوجد نص من الشارع أن الثمنية محصورة في الذهب والفضة، بل الاعتبار بالقيمة الشرائية وهو معنى الثمنية. والأموال هي ما تتمول والنقود تتمول والأموال القصد منها الانتفاع بأعيانها والأوراق النقدية ينتفع بعينها. كما أن الأوراق هي الآن المحددة للأسعار والأثمان فصارت أقوى من الذهب وصار الذهب ليس في نفسه قيمة بل النقود هي الثمن الذي يقوم بها الأشياء. والعلة في الذهب والفضة أنها أثمان وكانت يقوم بها الأشياء، والآن لا يقوم بهما شيء بل هي وغيرها تقوم بالنقود. وعلة تحريم الربا في الدنانير والدراهم. والأظهر أن العلة في ذلك هو الثمنية؛ لا الوزن، كما قاله جمهور العلماء، ولا يحرم التفاضل في سائر الموزونات؛ كالرصاص، والحديد، والحرير، والقطن، والكتان. والتعليل بالثمنية تعليل بوصف مناسب، فإن المقصود من الأثمان أن تكون معيارا للأموال، يتوسل بها إلى معرفة مقادير الأموال، ولا يقصد الانتفاع بعينها. وهذا هو عمل وفائدة النقود الآن. وهؤلاء يقولون هي من عروض التجارة وليست أموالا. فالجواب: أن هذا باطل؛ لأن المال إذا بيع بعضه ببعض انتفى المراد منها وضاعت فائدتها فمتى بيع بعضها ببعض إلى أجل، قصد بها التجارة التي تناقض مقصود الثمنية، واشتراط الحلول والتقابض فيها هو تكميل لمقصودها من التوسل بها إلى تحصيل المطالب؛ فإن ذلك إنما يحصل بقبضها، لا بثبوتها في الذمة؛ مع أنها ثمن من طرفين، فنهي الشارع أن يباع ثمن بثمن إلى أجل. فإذا صارت الفلوس أثمانًا صار فيها المعني، فلا يباع ثمن بثمن إلى أجل. ولذلك وقع الخلاف بين العلماء لم لم تكن النقود وقتها لها قيمة في نفسها بل ترجع وتؤول للذهب فكان الرجل يخير بين الورق والذهب أو الفضة فأما الآن وقد ألغى العالم كله الرصيد الذهبي وصارت النقود مالا وثمنا بنفسها يقوم بها كل شيء صارت علة الثمنية متوفرة فيها. وفي الختام: يجب على المسلم أن يتحرى الحلال في مأكله ومشربه وأن يأخذ الفتوى عن أهلها المختصين بها لا من فنانيين أو اقتصاديين أو قانونيين غير فقهاء بالشرع والحل والحرمة. عضو مجمع فقهاء الشريعة والخبير بمجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة.