في كل مرة، ينتج الناس حدثا مخصوصا يتم استهلاكه بشكل دوري عبر وسائط إبلاغ المعلومة المختلفة، ولو شاء أحدنا أن يحصي الأحداث المندوبة للاستهلاك الجماهيري على امتداد سنة واحدة، لاستحال عليه الطريق وصدت دونه الأبواب. وهي فضلا عن كثرتها تخلق لتسلية الناس وإخمار عقولهم لعلها تميط وجوههم عن القذارات الاجتماعية المختلفة. ليس الأمر بسيطا كما نشاء أن نقنع أنفسنا، ففي كواليس كل حدث هناك من يعمل في الخفاء لإظهار ما يجب أن يظهر، وإخفاء ما يجب أن يختفي، وفي كل خفاء أو تجل لا يسع الناس إلا أن يستهلكوا كل شيء بعقول مخمورة وأذهان غائبة، بعد أن جلسوا طويلا على مقاعد دراسة لم تقدم لهم يوما أدوات التحليل النقدي لما يلوح في آفاق الدنيا من أشياء أو أحداث أو ظواهر. أما منتجو ثقافة الاستهلاك هاته، فسينبهرون بقوة انتشار الأحداث التي صنعتها أيديهم، ويعتبرون هذا الانتشار وسيطهم لبلوغ السقف والنظر إلى الشعب من سدة الصيت الذائع، ثم يقتنعون بعد برهة أن أعمالهم هي السداد والفعل اليقين، فتشكلت لدينا فسيفساء مجتمع مريض؛ صحافة مريضة، ومدرسة مريضة، وإدارة مريضة، وشارع مريض... أما هو، ذلك الإنسان الذي يطلق عليه عادة اسم «المثقف»، فينكفئ في زاوية مظلمة شديدة الحلكة، يجلس القرفصاء متدثرا بأسمال سميكة، ويتأمل الأشياء من بعيد بعينين متوجستين أذبلتهما المأساة. مناسبة هذا الكلام هو ما أصبحنا نراه في المشهد الإعلامي من انزياحات عن الرسائل الحقيقية الموكولة للإعلام؛ ففي كل لحظة نسمع عن أحدهم قام بتسريح «قوادس» الرباط وأنقذها من فيضان، فينال بذلك حظوة إعلامية لم ينلها أكبر المثقفين المغاربة عل الإطلاق. وقد نسمع عن طفلة تستقبل في برنامج واسع الانتشار مثل «رشيد شو» لمجرد أنها قالها عبارة «الأرنبات وداك شي»، فيسقط في يد ذاك الكاتب الفلاني الذي يسعى إلى تبليغ رسالته سنوات دون أن يصل عدد «المبلغين» إلى ألف شخص؛ تماما كما حدث مع أحمد بوزفور الذي رفض جائزة منحت له على مجموعة قصصية لم ينشر منها سوى 600 نسخة. ناهيك عن رواد الهرج والمرج من المطربين والمطربات، والممثلين والممثلات، الذين يحصلون على القسط الأوفر من التغطية الإعلامية في أوقات الذروة. وهذا ليس رفضا منا للغناء أو التمثيل، بل تسليم منا بدور المثقف الذي يمكن أن يوازي الأدوار الأخرى في التنوير والتثقيف، والتسلية أيضا. وهنا لا تنفك تحضرني قصة الراحل إبراهيم الفقي حينما أخبره منظم مهرجان ما أنه كان ينوي إحضار هيفاء وهبي عوضا عنه، وهمس له أنه لم يكن يعرف أن المثقفين يستطيعون استمالة الجمهور بذاك الشكل. أما حصيلة الثقافة في المغرب برمته، فلا تعدو أن يعكسها برنامج يتيم اسمه «مشارف» بإمكانياته المحدودة. لهذا ظل المثقف حبيس برجه، يحضن كتبه الصفراء خوفا من ألوان الطيف، في وقت كان الجدير به أن ينفث في كل الاتجاهات لعله يحظى بما يستحق. نحن نتذكر دون شك المهدي المنجرة والصورة النيرة التي تركها عن نفسه دون أن يترك الألسنة تلوكه كثيرا، فقد كان الرجل واعيا بأن المثقف لا يجب عليه أن يترك حبل النزاهة يفلت منه؛ لأنها وحدها التي تصونه وتحفظ حرمته، لهذا زهد عن المناصب السياسية لكي لا تلطخ سمعته كما حدث مع أصدقاء النضال القدامى. ومع ذلك فقد فتحت له أبواب التأثير الثقافي دون غيره من المثقفين، لكنه لم يستغلها كما كان مطلوبا منه. إن التأثير الثقافي يحتاج إلى إصلاح للإعلام، وتنزيهه عن صغائر الأحداث، وبعث دور المثقف من جديد، وتبويئه المكانة التي يستحق بين الناس، فبدون هذا وذاك، سنظل أسيري ثقافة الاستهلاك الشعبي للسفالات والدناءات.