الله يعلم ولذا فإنه يفهم - جل وعلا - ويرحم، أما المجتمع فإنه لا يعلم ولذا فهو لا يفهم ولا يرحم، ولا أقصد هنا العلم مقابل الجهل، ولكن أقصد خفاء الحقيقة عن الناس مما يجعلهم يصدرون أحكاماً ليست واقعية. هذا ما خرجت به بعد متابعتي لردود الأفعال حول رواية رجاء الصانع (بنات الرياض) وكنت قد قرأت الرواية بعد احتشاد معنوي ومهني، ولم يحدث لي ان قرأت رواية بمثل هذا التحفيز النفسي الذي كنت عليه قبل قراءة النص، فأنا قد علمت عن الرواية وأنا في بيروت وسط حشد من المثقفين اللبنانيين الذين تفاجأت بهم يسألونني عن رواية لم أسمع بها من قبل، وكانت قد صدرت للتو هناك وكانوا قد قرؤوها وأثارت اهتمامهم، واطلعوني لحظتها على مقابلة مع المؤلفة في جريدة النهار، وطال الحديث عن رواية رأوها حدثاً أدبياً لافتاً وعجبت لحظتها من سرعة انتشار خبر الرواية ومن قدرتها الخارقة على لفت نظر الوسط الثقافي في بيروت بهذه السرعة الخاطفة، وهذا ما حفزني إلى المبادرة بقراءة الرواية بعد ان تكرم الصديق سليمان الوابلي بايصالها إليّ بسرعة خاطفة أشكره عليها. والحق ان الرواية لم تعد نصاً أدبياً فحسب بل تحولت إلى حدث ثقافي حتى بدت وكأنها مشكل اجتماعي، وهي تمثل مشكلة فعلاً، لا من حيث الموضوع الذي طرقته فحسب بل أيضاً من حيث ردود الفعل عليها، وأنا في مقالاتي هذه سوف أقف على عدد من القضايا أولها ردود الفعل ثم بعدها تأتي وقفات على النص. وحينما نتكلم عن ردود الفعل فلابد ان نتفق على ان مواقف الغاضبين والغاضبات من الرواية مبررة من جهة ومفهومة من جهة أخرى، كما يجب ان نقول إنها متوقعة وضرورية، وليس من المعقول ان نتصور مجتمعاً مثل مجتمعنا تعود على نمذجة نفسه على الخير والنزاهة، ثم يأتيه خبر يكشف له ان الواقع يختلف عن المأمول، ولم تكن الرواية سهلة في طرحها للخبر حيث اختارت لنفسها مسمى (بنات الرياض) ولو اختارت عنواناً آخر لهان الأمر مثل عناوين (غير - غير) أو (الفردوس اليباب) وهي عناوين تشير إلى وقائع يستطيع قارئها ان يهدئ من روعه ويقول هذه حادثة خاصة واستثنائية وشاذة، ولكن الأمر هنا هو مع عنوان يشم معه البعض رائحة التعميم، ومن هنا تأتي المشكلة حيث سيقال ان مدينة الرياض كلها من هذه الشريحة وبالتالي يجري استنفار كل خطوط الدفاع وخطوط الهجوم، وهذا ما هو حاصل الآن، ومن هنا تأتي مشكلة النسق - كما أراها - إضافة إلى مشكلة النص.والحقيقة المرة التي يجب ان نعترف بها كلنا هي أننا لا نعرف مجتمعنا، وكم مرة تفاجئنا أخبار وأحداث ووقائع جسام تقع حولنا ثم نعلن استنكارنا ونقول ان هذا غريب عنا وليس من تقاليدنا ولا من ثقافتنا وأنه من تأثير خارجي وأنه شاذ ولا يمثل أحداً منا، ونظل نأمل بأن يمر الحدث سريعاً كي تصدق ظنوننا ودعاوانا في أجنبية الحدث، ولكن الأمر يطول ويطول إلى ان نبدأ بالاعتراف التدريجي (المر والتكتيكي) ونكتشف أننا أمام حالة مأساوية عريضة وعميقة، وما سبب هذا إلاّ لأننا لا نقبل صوت النذير ولا نستمع إلى المنبهات المبكرة، حتى وان كانت المجالس والدوريات تتحدث دوماً عن المظاهر الاجتماعية وتقول بصراحة عن كل معالم التهتك والتكسر في مجتمعنا، ونقبل ذلك في المجالس ونمارسه، لكننا لا نخطو الخطوة الصحيحة الأولى بالمجاهرة الإعلامية حوله، وان غلط أحدنا وأشار إلى شيء من الخطر في مقالة أو في حديث متلفز شجبنا قوله وتبرأنا من دعواه. وهذا نسق إعلامي واجتماعي نعرفه كلنا، ونعرف ان كل مشاكلنا تظل مطمورة تحت قناع الستر إلى ان تنفجر، ولكن بعد ان تكون قد استفحلت ونكون قد أسكتنا كل الأصوات المحذرة والمنبهة، وحينئذ نهب مطالبين للناس بأن يشاركوا مشاركة إعلامية واجتماعية لمعالجة المشكلة وكنا من قبل نمنعهم من ذلك. وأنا هنا لا أشير إلى عيب بمقدار ما أشير إلى خاصية اجتماعية طبيعية وتلقائية وهي من طبيعة المجتمعات المحافظة في أي مكان وأي زمان، وهي إلى الفطرة والسليقة أقرب منها إلى أي شيء آخر، غير ان المهم هنا ان نتنبه إلى ان السليقة والتلقائية لم تعودا قادرتين على مواجهة المواقف. هذا وانه لمن طبيعة المجتمع المحافظ ان يتعامل مع نفسه ومع مشاكله عبر قوانين ثقافية أزلية أذكر منها اثنين هما: 1- ان من أهم خصائص المجتمع المحافظ ستر العيب، ولا شك ان ستر العيب الشخصي مطلب شرعي نبيل، ولكن القياس هنا يأتي من تصورنا ان العيب الاجتماعي هو أيضاً مثل العيب الشخصي وستره كقياس على ذاك هو شرط أخلاقي ضروري، ومخالفته هي مخالفة مرفوضة وانشقاق خطير. 2- وتبعاً للأول فإن المجتمع المحافظ يجنح للتصور بأن الزمن كفيل بحل أي مشكل وإذا تركت المشكلة فإنها ستتوارى تدريجياً إلى ان تزول، بينما كشفها ومباشرتها سيعمقها ويشيعها. وهذا حل جرى تجريبه على مدى قرون وأثبت صلاحيته وكان ناجحاً فعلاً، وفي الماضي كان ترك المشاكل للزمن يقضي عليها وينسيها، وكما قيل إما ان يموت العم أو تموت النخلة أو يموت الفلاح، ولكن لو بقي الجميع فهنا تأتي المشكلة، وسيكون العفو الكريم هنا هو المأمول، وقصة هذا المثل ان فلاحاً باع على رجل وجيه فسيل نخل، وقال له انه فسيل سكرية، بينما هو فسيل فحل لا يثمر، وقال الفلاح لنفسه إنه فيما بيننا وبين وقت بلوغ الفسيل مرحلة الإنتاج نحن أمام ثلاثة احتمالات فإما ان يموت الفسيل أو يموت العم أو أموت أنا وينتهي الأمر، ولكن الجميع بقوا وانكشفت اللعبة غير ان الفلاح نجا هنا لأنه صارح عمه بما أضمره فأعجب العم بجواب الفلاح وعفا عنه، وهكذا لعبت البلاغة لعبتها وحلت المشكل، والبلاغة هي إحدى أسلحة النسق المحافظ حيث نجد كلمة واحدة تغير التاريخ سلباً أو إيجاباً، وقد قالوا بأن الحرب أولها كلام، مما هو من الثقافة الأكيدة للنسق الثقافي. وحينما أقول ان الزمن قد نجح في الماضي في حل المشاكل والوقائع تؤكد ذلك فإني أقول في الوقت نفسه ان هذا لم يعد الآن ممكناً، وقد حدث تغير كوني في الثقافة البشرية كلها صار الزمن معه مجرد استعارة بلاغية، وان كان هارون الرشيد في زمنه يملك القدرة على جعل بغداد تعيش حياتها الخاصة بعيداً عن كل العوالم البشرية، ولا تدري بما يحدث خارجها ولا ذاك يؤثر عليها وما كان يحدث في لندن أو في الصين حينذاك لم يكن في علم أحد ولا هو يهم أحداً، أما الآن فإن الدنيا كلها صارت في إطار زمني ومكاني واحد ولم يعد أحد يستطيع اخفاء ما عنده حتى سجون أمريكا السرية انكشفت مثلما انكشفت ممارسات موظفيها الكبار وعساكرها الصغار وصارت فضائحهم، وكم من فضيحة في الماضي مرت ولم يعلم بها أحد، غير ان اليوم مختلف والوضع مغاير، وهذا متغير جوهري يجعل الحلول القديمة غير صالحة ولا فعالة في زمننا هذا، ولذا فإن ما استمتعنا به من أنماط ثقافية متوارثة وكانت ناجحة في زمنها لم تعد صالحة ولا فعالة الآن. أقول هذا كله ومزيداً منه في الحلقات القادمة كي أمهد لحديث عن ما يمكن ان تفعله الرواية - أي رواية - من وضع المجتمع في مرآة كاشفة، ومهما كانت الحقيقة مرة ومفاجئة فإنها تظل حقيقة من جهة وتظل مشكلة تتطلب التمعن والتفكر من جهة ثانية، وحلها لن يكون أبداً بالتستر عليها، ولكن بكشفها والاعتراف بوجودها، ورواية بنات الرياض تتحدث عن شريحة اجتماعية لم نكن على بينة من أمرها ولكن الرواية كشفتها لنا وصارحتنا بها، وأنا مع الدكتور غازي القصيبي حينما جاهر بالقول بأنه يجهل هذا العالم الذي تشير إليه الرواية، وأنا مثله تفاجأت بما قرأت ولكني أرى ان الرواية لهذا هي حدث اجتماعي كاشف ويجب علينا ان نشد على قلوبنا بقوة ونواجه حقائقنا المرة بشجاعة وواقعية، أما استنكار الرواية ورفضها فلن يكون حلاً ولن يلغي المشكلة، كما لن يمنع نصوصاً أخرى من ان تأتي وتكشف، ولن يفيدنا الشجب والرفض شيئاً، مع وجوب القول بأن وجهات النظر الرافضة هي وجهات نظر مشروعة ومفهومة وتعبر تعبيراً صادقاً عن نفسها وعن مشاعرها وعن غيرتها، غير ان التعبير عن المشاعر شيء - وهو حق بكل تأكيد - ومعالجة الظواهر شيء آخر - وهو حق أيضاً. وفي المقالات القادمة مزيد من القول - إن شاء الله - .