نشأ العراق عليلا، وكان من الممكن ان يشفى، لو عملت قياداته على أن «تنصهر» فيه مكوناته المذهبية والطائفية، ويتعمق الانصهار الوطني فيه، فتصبح هناك شخصية عراقية واحدة، بصرف النظر عن الانتماء العرقي والديني، خاصة ان القوى الدولية المتنفذة (لحسابات خاصة بها) كانت تعارض إقامة دولة شيعية مستقلة، إضافة الى معارضتها الشهيرة السابقة لإقامة دولة كردية مستقلة، تكون نواتها المنطقة الشمالية من العراق. ولكن استشراء الطائفية والمذهبية افسد النمو الطبيعي السليم للدولة المدنية العراقية. فالاستبداد العسكري كان من مصلحته ان يؤكد على «المركزية» الصارمة، التي تجعل العراق كله، وبكل فعالياته، يدور حول بغداد.. بل وحول شخص الزعيم (الاوحد، الملهم... الخ). هذا ادى -بالضرورة- الى: تعميق الانتماء الطائفي والمذهبي، وخلق قدر من التنافر بين مكونات العراق الرئيسية. ادعت الديكتاتوريات العراقية -زورا- ان حكم العراق بشكل سليم لا يتم الا بهذا الاسلوب الوحشي والصارم . والحقيقة ان تلك الديكتاتوريات -وخاصة الاخيرة- كانت تعمل ما يحقق مصالحها ويضمن بقاءها، ولم يكن هدفها الأساسي هو: «الإبقاء على وحدة العراق «، بقدر ما كان همها هو الإبقاء على «زعامة الزعيم القائد» وأتباعه. حتى وإن افترضنا حسن النية -وهو غالبا غير وارد في هذا الشأن- فإن هذه المركزية تمزق، ولا ترتق، تشرذم ولا توفق.. خاصة في بلد متعدد الطوائف كالعراق. حل الاشكال العراقي المأساوي كان يكمن في تولي ديكتاتورية مصلحة مقاليد الامور في العراق عمل -بجد واخلاص- على التطبيق السليم للديمقراطية والفيدرالية. إن «الفيدرالية» السليمة لا يمكن ان تنجح الا في ظل نظام ديمقراطي وإن نجحت، فإنها توحد ولا تفرق. انها «الصيغة السحرية» الأهم، القادرة على خلق دولة واحدة (كيان واحد) من عدة كيانات، او هويات مختلفة، خاصة عندما يقوم ال«تقسيم» على أساس مناطقي جغرافي.. كأن تصبح كل من «المحافظات»العراقية الثماني عشرة الحالية عبارة عن «ولاية». إن «الفيدرالية» وهى اختراع سياسي حيوي وهام، تحقق هذه المعادلة الصعبة، عبر: اقامة كيان واحد متحد، مع تمتع كل من مكوناته (الولايات) بحق ادارة نفسها، وفق الاسلوب الذى يناسبها وترتضيه، شريطة انسجامه مع الدستور (الاتحادي) العام للكيان الأكبر الواحد. وباعتبار العراق بلدا اسلاميا، كان من الطبيعي ان تكون الشريعة الاسلامية هي مصدر رئيس للتشريع فيه. إن هذه «الوصفة» هي العلاج الأنجع، الذي يوصي به غالبية علماء ومفكري السياسة الحاليين، من عرب وغيرهم، ليس للعراق الممزق المتعب وحسب، بل ولمعظم الدول الأخرى، التي تعاني من ذات العلل.. وقد تم تبني هذه الوصفة في آخر دستور صدر بالعراق سنة 2005م. ولكن العراق افتقر الى القلة القيادية المصلحة التي كان يمكن أن تضمن تناول البلد المريض لهذه الوصفة الشافية بإذن الله. كل القيادات العراقية التي تولت السلطة فيه بعد استقلاله، كان همها الاكبر هو: تكريس بقائها في السلطة لأطول فترة ممكنة، فحرم هذا البلد من التعافي والشفاء، وأوشكنا نحن محبيه على تشييعه قريبا لمثواه الاخير.