لا يمكن اعتبار الأزمة الحالية التي يمر بها العراق أزمة مصالح أو أزمة سياسة عابرة أو أزمة انعدام الثقة بين الفرقاء والكتل السياسية فحسب بل أكبر من ذلك وأعقد بكثير، أزمة تتعلق بأصل التعايش المشترك بين المكونات الثلاثة الأساسية في البلاد «السنة والشيعة والأكراد»، حيث لا توجد بينهم روابط اجتماعية قوية تشدهم إلى بعضهم، ولا قواعد سياسية ومفاهيم عليا مشتركة ينطلقون منها «كالدين والأرض والوطن والدستور»، حالة التنافر والتباعد قائمة على قدم وساق بين هذه المكونات وهي تتوسع يوما بعد آخر، وقد ظهرت أولى بوادر هذا التمزق الاجتماعي والثقافي وطفت إلى السطح بقوة بعد انسحاب الحكومة المركزية من المناطق الكردية عام 1991 وتشكيل الأكراد لحكومتهم شبه المستقلة عن بغداد وانقطاع صلتهم بالعراقيين في الوسط والجنوب تماما لغاية سقوط النظام البعثي عام 2003 وحدث نفس الشيء بين السنة والشيعة عندما استولى المكون الأخير على السلطة بعد سقوط النظام البعثي وحدثت القطيعة بينهما تماما عقب حدوث الحرب الطائفية بينهما بعد عامي 2006 2007 .. مشكلة العراق لا تكمن في من يحكم وكيف يحكم، ولكن تكمن في البنية الأساسية لمجتمعاته المختلفة وتنوعاته العرقية والطائفية المتناقضة التي شكلت منها الدولة العراقية التي كان لابد لها في ظل غياب الديمقراطية التام من انتهاج سياسة حازمة لإخضاع هذا الفسيفساء المتناقض العجيب لقوانينها، فكانت القوة القاهرة والسلطة الغاشمة هي العنوان الأبرز في كل السياسات التي سارت عليها الحكومات العراقية المتعاقبة، ومن الطبيعي في حالة كهذه أن يظهر رجال مثل صدام حسين أو المالكي أو الجعفري أو أي واحد آخر ليتجهوا إلى سياسة التفرد والدكتاتورية وممارسة القمع لإجبار»المكونات» على الخضوع لسلطة الدولة، ربما يختلفون في الأسلوب والطريقة ولكنهم يتفقون في الغاية والنتيجة وهي «المحافظة على الدولة مهما كلف الأمر»، وقد يعمد المالكي أو أي سياسي آخر يتبوأ سلطته «المطلقة» إلى نفس سياسة صدام القمعية بحق الآخرين إن توفرت له الأجواء السياسية المناسبة والغطاء الدولي المساند. وستظل هذه المشكلة «المتجذرة» قائمة في العراق من دون مواجهة الحقيقة التي نتهرب منها دائما وهي أن التعايش بين المكونات العرقية والطائفية العراقية أصبحت مستحيلة ما لم يوجد لها حل، والحل يكمن في الطرق التالية: إما أن يتفكك العراق وينفصل إلى ثلاث دويلات مستقلة تتمتع بعلاقات جيرة وصداقة حميمة مع بعضها البعض «يا جاري أنت في دارك وأنا في داري» من غير الخوض في صراعات طائفية وعرقية عقيمة أو الجدل في ملكية الأراضي المتنازع عليها أو استنباط مفهوم الشراكة الوطنية وعقد الاتفاقات الاستراتيجية وغيرها من العبارات الفضفاضة التي يراد بها تأزيم الأمور وإشغال العراقيين عن تطوير بلادهم وتعميرها، وإما أن يتحول العراق إلى ثلاثة أقاليم فدرالية أو كونفدرالية في دولة لامركزية واحدة وفق المشروع السياسي الذي طرحه نائب الرئيس الأمريكي «جوبايدن» عام 2005، وإذا ما تعذر اللجوء إلى هذين الحلين فيمكن الطلب من الأممالمتحدة أو إلى إحدى الدول الغربية بوضع وصايتها على الدولة باعتبارها قد فشلت في تحقيق الأمن والاستقرار لمواطنيها ودبت فيها الفوضى السياسية والإدارية وشاع فيها القتل والإرهاب على نطاق واسع، أو ربما بإعادة القوات الأمريكية إلى العراق ثانية بعد أن غادرته عام 2011 ذلك لوضع حد للحالة السياسية المتدهورة «هذا إذا قبل الأمريكان بالعودة ثانية إلى المستنقع العراقي الآسن» وقد يكون الحل الأنسب لوضع حد للحالة العراقية الراهنة هو بإبرام اتفاقية بين الشركاء السياسيين بحضور ممثلين عن الأممالمتحدة ودول كبرى ليكونوا شهودا أقوياء يضمنوا تنفيذ بنودها بصورة صحيحة وفي حال خروج أحد الأطراف الموقعة لبنود الاتفاقية عن التزاماتها أو تنصل من الوعود التي قطعها «كما يحدث دائما» فإنه سيخضع لعواقب صارمة ولا يمكن التساهل معها .. هذه هي أهم المحطات والمواقف التي يمكن للعراق أن يقف فيها ليعالج أزمته المزمنة «أزمة انعدام التعايش الطبيعي بين مكوناته الرئيسة» التي تتفرع منها كل الأزمات الأخرى، وفي حال بقائه على موقفه السلبي المعهود وتجاهله لأبعاد الأزمة الخطيرة، ومعالجتها بصورة صحيحة، فإنه سيسير نحو الهاوية وقد يفقد في طريقها كل مقوماته الحياتية؛ اسمه وخارطته السياسية ومكانته الإقليمية وسيادته الوطنية، ويتناثر إلى أجزاء صغيرة ولا يبقى شيء اسمه العراق.