من المبهج الاطلاع على تطورات الأمم والدول والمدن، تأسرنا النماذج الحضارية القديمة والحديثة. مر زمن على اليونان كانت هي موئل كل إبداع ومصدر كل نور، وذلك في القرن الخامس قبل الميلاد، لكن اليونان الآن لا تقارن بدول بدأت تنهض وتركض نحو المستقبل، بل اليونان باتت ثقافة منقرضة مثل السومريين والفراعنة، بقيت المدونات المبثوثة والتاريخ المطوي. أزور هذه الأيام نمرا من نمور آسيا، إنها سنغافورة، وهي أنموذج للتنوع والتعدد والانصهار والتعايش. عدد سكانها الذي يصل تعداده إلى خمسة ملايين، هو خليط من الصينيين والملاويين والهنود وآسيويين من ثقافات مختلفة، والقوقازيين 42% من سكان الجزيرة، هم من الأجانب الوافدين للعمل أو للدراسة. معروف نهوض سنغافورة اقتصاديا، فهي من الدول المؤثرة والتي تتعالج من أزماتها بسرعة. وهي مدينة التنوع والتعدد، بل سمت شركة «أي تي كيرني» جمهورية سنغافورة«المدينة الأكثر عولمة» في العالم سنة 2006. إنها مدينة «كوسمبولوتية»، عالمية متنوعة، مدهشة متعددة. لنا أن نسأل: كيف استطاعت هذه الدولة الصغيرة التي صنعت من العدم، بحيث لا يوجد فيها موارد كالتي لدى العرب ودول المنطقة، أن تنجح؟! العامل الرئيسي بالطبع هو العمل على الجانب الاقتصادي والتنموي، والأهم في نظري هو القدرة على التحضر والتحرر من قيود الثقافة العائقة. في الكتاب الثمين: «بناء سنغافورة النخبوية والإثنية ومشروع بناء الأمة» من تأليف كل من: إزلاتكو إسكربس، ومايكل دي بار، ينقلان عن وزير الخارجية السنغافوري جورج يو تصريحات له أدلى بها في 12 أكتوبر 2005 قال فيها: «هل نحن صينيون؟ نعم ثلاثة أرباع السنغافوريين صينيون. ولكننا صينيون بخصائص سنغافورية. نحن متعلمون على الطريقة الغربية، ولكن بخصائص سنغافورية، نحن هنود بخصائص سنغافورية، نحن جنوب شرق آسيويين، لكن بخصائص سنغافورية». (راجع الفصل الثالث من الكتاب). نعم، هذه هي سنغافورة، هل تعرفون بلدانا تختلف حتى الآن بين بعضها البعض منذ خمسة عشر قرنا؟ هل تعرفون بلدا عربيا يضم 27 طائفة لا يزال يتحارب؟... نعم، ولهذا لم تنهض كل تلك البلدان، دائما فتش على الانصهار والتعايش والتعدد، تجد التنمية.