زار أبا العتاهية شاعر مجهول يقال له ابن أبي الأبيض فقال له : إني أقول الشعر في الزهد ولي فيه أشعار كثيرة مثلك يا أبا العتاهية، وأحب أن أتتلمذ على يديك فهل تكرمني بإنشاد بعض قصائد من جيد ما قلت. فقال أبو العتاهية: اعلم إن ما قلته ردىء . قال: أتقول إن شعرك ردىء وأنت من طبقة بشار بن برد وأبي نواس؟ قال : يا بني إن الشعر ينبغي أن يكون مثل أشعار الفحول المتقدمين فإن عجز الشاعر أن يلحق بهم فلا يقولن إلا السهل المفهوم مما لا يخفى على جمهور الناس. ثم قال أبو العتاهية وهو أبو إسحاق إسماعيل بن القاسم: إن شعري سار في الآفاق لأنه سهل خفيف ولاسيما ما جاء في باب الزهد، والزهد كما تعلم ليس من مذاهب الملوك ولا هو من مذاهب رواة الشعر ولا طلاب الغريب ولذلك فإن هذا الضرب من القول يطرب له الزهاد وأصحاب الحديث والفقهاء والعامة لأنه مفهوم. وكان بذلك خير ناقد لشعره، وقد اخترته للكتابة عنه لأنه كاد أن يتخصص في النسك والزهد .. على عكس معاصره الشاعر الشهير أبو الحسن ابن هاني (أبونواس). وجاء في ديوان أبي العتاهية الذي طبعته دار التراث ببيروت أن أبا العتاهية جاء إلى الخليل بن أسد النوجشاني فقال له : زعم الناس أني زنديق ووالله ما ديني إلا التوحيد. فقال الخليل : فقل شيئا نتحدث به عنك فقال رحمه الله: فيا عجبا كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد ولله في كل تحريكة وفي كل تسكينة شاهد وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد وقد جاء في ترجمته في الموسوعة العربية الميسرة أنه : أول من أخضع الشعر العربي للفلسفة. ولا بد لنا أن نذكر أن الخليفة المهدي العباسي قد سجنه لتغزله في جاريته عتبة، وسجنه الرشيد بن المهدي لأنه أقلع عن الشعر الغزلي.. ومن طريف ما يروى أن الرشيد كان في مركب وكان يعجبه غناء الملاحين ولكنه كان يكره فساد لغتهم. فقال : قولوا لأحد الشعراء المهرة يقول شعرا يتغنى به هؤلاء الملاحون فاقترحوا عليه اسم أبي العتاهية. فأرسل إليه ليقول شعرا ولم يأمر بالإفراج عنه فاغتاظ أبو العتاهية وقال : خانك الطرف الطموح ... أيها القلب الجموح بين عيني كل حي ... علم الموت يلوح كل نطاح من الدهر ... له يوم نطوح لست بالباقي ولو عم ... رت ما عمر نوح فلما سمع الرشيد هذا الغناء أخذ يبكي وينتحب لكنه أطلق سراح أبي العتاهية فيما بعد. السطر الأخير : فيا ليت الشباب يعود يوما فأخبره بما صنع المشيب