جلست في الطائرة البوينج 747 الجامبو وتأملت في جمال هذه التحفة الهندسية: تصميمها الأساس وضع قبل ما يقارب النصف قرن، ووضع تصميمها النهائي على أكثر من خمسة وسبعين ألف لوحة هندسية. وعدد القطع في الطائرة يفوق الستة ملايين. وطول الأسلاك بداخلها يفوق المسافة من مكةالمكرمة إلى جدة... ذهابا وإيابا. وكمية ساعات العمل في الدفعات الأولى منها كانت تفوق العشرة ملايين ساعة. وهذه الطائرة فعلا سابقة لزمانها، ليس فقط بسبب حجمها العملاق، وإنما لأنها كانت، ولا تزال فريدة في شكلها وأدائها واقتصادياتها. وكل قطعة في الطائرة وراءها حكاية. وكنت اليوم أتأمل في جناحها العملاق خارج نافذتي واكتشفت أنه يفوق مساحة حوش منزلي، وتحديدا فمساحته تبلغ حوالى 525 مترا مربعا، وهي كافية لفرش 489 سجادة صلاة على سطحه. واكتشفت أيضا أن هناك قصصا كثيرة، بل ومعارك دارت حول تصميم الجناح. واخترت لكم التالي: كما جرت العادة في تصميم الطائرات الجديدة بالكامل، وكما هو الحال بالنسبة لي شخصيا، هناك معاناة دائمة في زيادة الوزن. بالنسبة للطائرات يكون سببها تعديلات تصميمية أو متطلبات غير متوقعة في التصنيع أو التقوية أو الأداء. وقبل أن تطير الطائرة اكتشف المصممون أن الزيادة في وزن الطائرة لن تسمح لها بالطيران بشكل آمن. وتطلب ذلك أن يتم النظر في إعادة تصميم الجناح بأكمله. وكانت مشكلة كبيرة جدا، بل هي أقرب إلى كارثة هندسية لأنها تتطلب الجهود، والوقت، والتكاليف التي تؤثر على برنامج الإنتاج، واقتصاديات اقتناء وتشغيل الطائرة. وكان الإجراء المتبع أن يتم استنفار فريق هندسي جديد بالكامل لإعادة التصميم. وهذا ما حدث بالفعل في الشركة المصنعة. ولكن كبير مصممي الجامبو اكتشف أن تغيير زاوية الجناح بمقدار ثلاث درجات فقط سيحل المشكلة. وتحديدا ففي الطرف، في المنطقة ما بعد المحركات الخارجية، تتغير قدرة الطائرة على استيعاب الأحمال الزائدة بالالتواء بذلك المقدار الصغير جدا. وبدأت المنافسة الشديدة بين الفريقين: أحدهما لإعادة التصميم بالكامل، والثاني للف الجناح بمقدار ثلاث درجات. والجميل في الموضوع أن ثلاث درجات تعتبر مقدارا ضئيلا جدا تكاد ألا تراه العين المجردة. يعني عندما أشد حرف اللام في الكلمة التالية... "فلن" ترى الفارق لو كانت اللام هابطة أو صاعدة بمقدار ثلاث درجات... صدقني أنك "لن" تراه. ولكن سبحان الله أن ذلك الالتواء البسيط في المكان المناسب من جناح الجامبو كان كافيا لتحمل بإرادة الله الوزن الزائد في الطائرة دون أي مشاكل ودون اللجوء إلى إعادة التصميم الكامل للجناح. قصص الجامبو كثيرة. وكانت الخطوط السعودية من الشركات الرائدة عالميا في تشغيلها، وكانت من أكبر الشركات المشغلة للطرازات المختلفة منها منذ فترة تعود إلى أكثر من أربعين سنة. وكانت تذهلنا، بل وتذهل العالم بأكمله برحلاتها المباشرة من المملكة إلى الولاياتالمتحدة منذ ثلاثين سنة. وكان من قائدي تلك الطائرة من الشباب السعوديين الذين أذهلوا العالم بقدراتهم وحسب ما أذكر، أن أصغر قائد للجامبو سنا في العالم كان سعوديا وهذا من أسباب الفخر والاعتزاز. أمنية أنتجت شركة البوينج حديثا أحدث طراز من الجامبو وهو 8-747 وتشغله الخطوط السعودية حاليا ضمن طائرات الشحن بطائرتين فقط. أتمنى أن تدعم الخطوط أسطولها الجوي للركاب بالمزيد من هذه الطائرات الرائعة نظرا لحاجة النقل الجوي في بلدنا إلى المزيد من السعة، ولما أثبتت من سلامة وجدارة. وللعلم فهذه الطائرة ليست للرحلات الطويلة فحسب، والدليل على ذلك هو أن أحد أكبر المشغلين لها هي الخطوط اليابانية على خطوطها الداخلية، ومعظمها رحلات أقصر من رحلات جدة إلى الرياض. والله أعلم وهو من وراء القصد.