بمقر دار غاليمار، كان الحضور ينتظر إطلالة المتوج بجائزة نوبل للآداب، ولم يدم الانتظار طويلا، وجاء باتريك بخجله المعهود وحيائه الأسطوري، التف الحضور لتقديم التهاني ل«النوبلي»، فكانت علامات «المفاجأة» و«الإحراج» بادية عليه، لم يعهد باتريك أن تسلط عليه الأضواء بهذا الشكل، رغم أنه وقع في موقف مماثل عندما فاز بجائزة غونكور العام 1978م، لم يقل باتريك جملة كاملة وبرر ذلك بالانفعال الذي انتابه وشعوره بالفرح. باتريك موديانو، قال إن نوبل وضعته في مأزق لم يقع له في حياته، وهو أنه سيكون مجبرا على إلقاء خطاب أثناء تسلم الجائزة، وأنه يكون مجبرا للملاحقات الصحفية التي طالما تفاداها في مشواره الأدبي. ويبدو أن أنطوان غليمار يعرف جيدا صاحبه، فعلق بابتسامة، قائلا: «لا تهتم سأكون بجانبك». باتريك موديانو ذكر صاحب دار غليمار مازحا، أنه لولاه لما فاز بالجائزة، وأنه رافقه طوال مشواره الأدبي، وعليه أن يكمل مهمته لآخر لحظة. كان يجب أن أجد وسيلة لأنتزع منه حوارا، خصوصا أنه كان مشتت الأفكار أمام السيل المتدفق لأسئلة الصحفيين، وأدركت أنه يجب أن «أقفر» عن التقليد السائد في الحوارات عدم إخضاعه «لسين جيم».. راقبته لحظات من بعيد واكتشفت أنه كان «منتشيا» في الحديث لأحدهم عرفت عندما اقتربت منه أنه قارئ وفي لأعماله، حاولت أن أقحم نفسي في الحوار الذي دار بين باتريك موديانو وقرائه، واحتفظت بخيط «مسافة»؛ لأنني لم أكن على إطلاع كبير بكل أعماله الأدبية، لكن استطيع أن انتزع حوارا مهما للقراء وبمساعدة الأوفياء من قرائه. • مبروك التتويج سيد موديانو، هل انتظرت هذه الجائزة مذ علمت أنك مرشح لها، أم أن التتويج جاء إليك دون أن يأخذ موعدا معك؟ (يضحك يفكر قليلا ويرد) لو طلب مني موعد لانتظروا طويلا. لكن يبدو أن الموعد دبر مع أنطوان غاليمار، فهو الوحيد الذي يستعجل المواعيد. (يضحك الجميع).. عندما اتصل بي الناشر أنطوان غاليمار كنت أمشي في الطريق، وسمعت تهنئته وفعلا شعرت بالغبطة اللا متناهية ولم يخطر في فكري لحظتها أي تعليق.. وأجبت عليه بعفوية وقلت: «غريب». بصراحة كانت مفاجأة لي.. لم أفكر بها قط.. في لحظة توقفت وقلت في قرارة نفسي هذا أنطوان الذي اتصل بي.. وأخبرني أنني فزت بالنوبل، إذن هو شيء واقع واصلت السير في طريقي، محاولا أن أقنع نفسي بما سمعت من أنطوان، لحظتها كنت أفكر أنني دائما كنت في عالمي وعزلتي، فالكتابة هي هذا كله، واليوم أصبحت تحت الأضواء، فكيف لي أن أجابه ذلك، كنت أعلم أنني ضمن القائمة، لكن لم يخطر ببالي التتويج، وبالتالي أصبحت هنا أعيش اللحظة.. إذا أردت ب«ازدواجية في الشخصية» باتريك الذي يعيش عالمه وحياته البسيطة وموديانو الفائز بالنوبل. • أكيد خطر ببالك لحظتها أن تعبر الزمن وتقف عند كل محطة من محطات كتاباتك ولحظة ولادة كل عنوان من أعمالك؟ • (يبتسم) تقرئين أفكاري أجل حدث ذلك، أسألك ماذا قرأت من مؤلفاتي؟ (تورطت) أجبته: مؤلفك الحائز على جائزة روجييه نييميه: La Place de l'Etoile، أو «ميدان النحم». وRue des Boutiques Obscures، أو «شارع الحوانيت المعتمة». • قاطعني المترجمة أم الأصلية؟ قلت: الأصلية. • فقال: هل شعرت أن هناك «ترفا» مكانيا في الشخوص، هل اختلف الأول عن الثاني .. هل استرجعت نفس الإفكار؟ (يسكت قليلا ثم يقول): أعيش الماضي وكأنني أعيشه الآن بل يتكرر بدقة ولا يطمس تنقل شخصيتي بين كل أعمالي الرحلة الزمنية حاضرة مع يومياتي، وبالتالي لم يستجد فيها جديد غير إضافة واحدة وهي تتويج لعمل «حتى لا تضيع في الشارع»، مع أني سمعت أن لجنة التحكيم اعتبرت التتويج جاء عن كل أعمالي الأدبية هذا على المستوى الشخصي، أما عن مراجعة أعمالي أتفادى إعادة قراءة نصوصي، أخشى أن أكتشف أنني كررت نفس الفكرة أو الجملة هناك أشياء تعود في الذاكرة دون أن تكون فاضحة وتصبح محل اهتمام القراء أو النقاد. لم أشأ الوقوف والتركيز على أعمالي السابقة عند صدورها؛ لأنني متيقن أنه إن حدث سيكون للأمر فعل سلبي على كتاباتي وقد تثبط عزيمتي وقد أتوقف عن الكتابة.. في كل عنوان كان يصدر، كنت أتخلص من شيء ما، من مشهد ما، مع تقدم العمر وتكرار التجربة اكتشفت أن أشياء كثيرة تغيرت في الكتابة لكن تبقى بعض العناصر مرافقة ووفية لنصوصي وتسترجع في كل نص جديد. • الكثير من أعمالك ترجمت إلى العربية.. هل تشكل لديك انطباع عن نوعية الترجمة ووفائها للنص الأصلي؟ نعم لي كثير من الأصدقاء عرب، وقد قرأوا الترجمات، تبدو جيدة. أكيد أن الوفاء للنص الأصلي قد يخان في بعض الأحيان؛ لأن اللغتين تختلفان، ولكن الانطباع العام كان جيدا. • تحدثت عن العناصر الوفية التي ترافق نصوصك وتعود عند كل جديد.. ألا ترى أن هذه الاستمرارية والتعانق في أعمالك هي التي جعلت لجنة التحكيم للجائزة ترى أن تكريمك هو اعتراف بأعمال أثارت الذاكرة والاحتلال؟. طبعا، سعدت بتعليق لجنة التحكيم، ربما لم أكتشف تلك الملاحظة في وقت مبكر، طبعا الكاتب يكتب والقارئ يكتشف، لا يمكني أن أكتشف ما كتبت إلا بعد أن استلقي وأنظر بعمق لما خطت أناملي، نفس الشيء يحدث للرسام الذي يزخرف جدارية ولا يكتشفها إلا بعد أن يبتعد عنها بأمتار ويمعن النظر فيها. أجل، تعاملت مع نصوص الذاكرة بشكل مستفيض وجدي وعبرت عن شيء من هذا الواقع. كنت أعيش الحرب العالمية بكل وقائعها ونتج عن ذلك تلك الإسقاطات التي ظهرت في نصوصي، ربما لأنني كنت أشعر بتلك الفترة المضطربة. وكانت العقول مشبعة بصور النضال والكفاح في الحرب العالمية الثانية. • هناك أرقام تتكرر في كثير من نصوصك كرقم الهاتف 15-28، على سبيل المثال، والذي ذكرته في ثلاثة مؤلفات: مقهى الشباب الضائع، شارع الحوانيت المظلمة، والشارع الضائع.. هل هو «تيمن» بالطابع الكتابي للكاتب «بيراك»، أم ماذا؟ في نصوصي، غالبا ما أحتاج إلى شيء مغناطيسي أعتمد عليه كالتفاصيل الحقيقية، والجزئيات التي يرى فيها البعض عبثية، ولكنها مهمة بالنسبة للرواية، تختفي مع تقدم النص. الحقيقة أن الأرقام هي حقيقية، كما أن الشخصيات حقيقية أيضا التقيتها وجلست إليها وتحدثت إليها كما أتحدث إليك الآن، غالبا ما يكون هذا التكرار غير واعٍ. أما عن التقارب الموجود في كتاباتي مع كتابات بيراك فأقول لك نعم، لقد تأثرت كثيرا بالكاتب بيراك الذي قرأت له في بداياتي الأدبية رواية «الأشياء»، ورغم ظهور بعض الأدباء، لم استمتع إلا بمؤلفات بيراك الذي كنت على تواصل دائم به وقرأت له «مكتب هاوي» الذي طلبته منه وأرسله لي شخصيا. • بينك وبين الطبيب الجراح قاسم مشترك لحد الالتزام بهذا القاسم المشترك.. كيف ذلك؟ (يضحك يصمت ثم يستطرد): هل يمكن لجراح مهما كانت مهارته أن يستمر في عملية جراحية لمدة ساعات دون انقطاع؟ إذا فعل ستخونه أصابعه حتما وسيموت المريض بين يديه.. أليس كذلك؟ بلى، هكذا أنا إن مكثت أمام الكتابة لساعات في اليوم، فسيموت النص حتما بين يدي، أكتب يوميا ساعة أو ساعتين على أكثر تقدير، وفي حال تخليت عن الكتابة يوما واحدا فسأستسلم. أفكر يوميا في الكتابة وهي بداخلي، لكن لا تدوم الكتابة في حد ذاتها إلا وقتا قصيرا. وإن أعدت القراءة، هنا مرحلة أخرى قد تدوم ساعات وساعات، ولأنني أكتب باليد ولا أستعمل الحاسوب، فالتصحيح والمراجعة يطولان • تستعمل لغة فرنسية بسيطة في نصوصك؟ أحاول أن أكتب اللغة الفرنسية بعبارات بسيطة مع تأثيرات متعددة، مع إضافة بعض العبارات القصيرة التي تفهم بسرعة دون البحث عن معانيها، لكن هذا لا يعني الوقوع في السهل الممتنع أو الخطابة «المملة»، بل كتابة الفرنسية بأفضل السبل الممكنة، مع الاحتفاظ بالأسلوب المقنع والمحافظ على درجة اللغة. أنتمي إلى جيل كان عالمه غير عالم الجيل الذي نعايشه؛ ولذلك أحاول قدر المستطاع ترجمة هذا النوع من التطور والإيقاع الجديد لهذا العصر. الأدب هو ما يمكن أن يترجم القلق المعاصر على أفضل وجه، وأعتقد أن هذا سوف يستمر؛ لأنه سوف تحتاج دائما لترجمة هذه المسألة. • هل سيرافقك أنطوان غليمار إلى ستكهولم، وهل ستكتب أنت الخطاب الذي ستلقيه. أم أنك «ستورط» أنطوان مثلما «ورطك»؟! طبعا سيرافقني أنطوان. هو من ورطني هذه الورطة الجميلة (يضحك). في ما يخص نص الخطاب، ليس شرطا أن يكون خطابا قد يكون نصا، وهنا لا تفرق كثيرا معي الأمور، لا تنسي أنني أجيد الكتابة لحسن حظي (يضحك)، هذا الأمر لا يخيفني، ولكن الارتجال قد تخونني فيه الكلمات؛ لأنني لن أتحدث عن نفسي وهو الشيء الوحيد الذي لا أتقنه. • متعتك، إذا، هي وقت الكتابة؟ بل أجد متعتي في المرحلة التي تسبق الكتابة وهي مرحلة الخيال. ثم تأتي مرحلةالخروج من الخيال وتحقيق الحلم على الورق. أحيانا، أتساءل: كيف استطعت أن أكمل هذا الكتاب أو ذاك، كتابة وإعادة صياغة، وإعادة بناء، مكثف على المسودة الأولى إلى غاية نهاية المطاف. الأمر يبدو مخيفا نوعا ما؛ لذا أحاول إجراء التصحيحات على مسودة المشروع، حتى تبدو المسودة على أنها شبكة من الطرقات من فرط التصحيحات الكثيفة والدقيقة. ولكنها ضرورية عند كل كاتب، فهي بالنسبة له الخلطة الأولى التي يجب أن يجرب فيها كل المقادير كي تستوي في النهاية. اكتشفت في معظم نصوصي نوعا من «التكثف» في الكتابة، لم تكن هناك مسحات أو فسحات لغوية.. أو فقرات.. وأدركت أن الكتابة لا تستوعب الشباب. فالكتابة في الصغر تخضع الكاتب لتراكمات عايشها، فتظل تلاحقه. وعلى الكاتب إيجاد الوضعية. في البداية لم أستطع أن أفعل ذلك، كنت متوترا، كنت أشعر بفقدان النبضات العصبية بين المخ واليد، فليس من السهل التركيز على شيء وإتمامه بسهولة. فتضطر للتفكير في الأشياء التي تحفزك. ولم أتمكن من إدارة كتاباتي والاسترخاء فيها بشكل جيد إلا بعد مرور السنين، وأصبحت رواياتي أكثر «أريحية» بالنسبة للقارئ. أعتقد أننا أصبحنا نملك التقنيات التي تجعل الكاتب أكثر أريحية، رغم أنني أرى أن هناك جانبا لا يجب إغفاله في «حالة» الكاتب، وهي المفارقة التاريخية في الكتابة، والتروي الذي تنطوي عليه، رغم السرعة التي تميز هذا العصر، فأصبح كل شيء حول الكاتب يتميز بالسرعة في حين بقي هو على نفس الوتيرة.