صباح اليوم سوف تمتلئ الصحف والمجلات العربية بشكل خاص بمقالات تعريفية جافة حول الكاتب الفرنسي باتريك موديانو الذي لعل الكثيرين منا يسمعون اسمه لأول مرة رغم ان اسمه يملأ السمع والبصر في بلاده فرنسا منذ خمسة وأربعين عاما وهو يشكل ظاهرة أدبية خاصة تسمى باسمه على غرار أن نقول «كافكاوي» فهو كاتب صاحب أسلوب متميز للغاية وله عالمه الخاص البالغ الضيق الذي لم يخرج عنه لكنه بالغ الاتساع اتساع حدود مخيلة الإنسان وتوهماته من الداخل هذا العالم الذي أطلق عليه النقاد في فرنسا بالموديانية. دعوني أحدثكم عن الكاتب الذي فاز بالأمس بجائزة نوبل على طريقتي الخاصة فقبل إعلان اسمه كفائز كتبت إلي أحد زملائي على الفيس بوك إنه لو فاز موديانو هذا العام فكأنني الفائز بهذه الجائزة رغم تعدد الأسماء التي تمثل نفسها وأوطانها التي تنتظر الحصول على هذا الشرف ومنهم في العالم العربي كل من آسيا جبار وأدونيس. رغم أنني لم ألتق بالكاتب فأنا واحد من الذين وقعوا في الهوس بكاباته عقب فوزه بجائزة جونكور الأدبية عام 1978، ولا أعتقد أنه قد تم الاحتفاء برواية وكاتبها حصلا على هذه الجائزة طوال تاريخها الذي عادل عمر جائزة نوبل (114 عاما) مثلما حدث في عام 1978، وقد كنت حديث العهد بمتابعة الأدب العالمي المعاصر في تلك الآونة وكانت لدي هواية مجنونة حيث كنت أقوم بجمع المقالات التي تنشر في أي مكان بالعالم حول الأدباء فكان هذا الاحتفال الشديد بموديانو وروايته، وامتلأت الصفحات الأدبية بصور الشاب البالغ الوسامة الذي لم يتجاوز الثالثة والثلاثين، وكأن هناك تعميدا بمولد كاتب حيث راح النقاد الفرنسيون يعيدون التعرف على موديانو ورواياته الأسبق وهو الذي نشر روايته الأولى «دائرة الليل» وهو في الثالثة والعشرين. ورغم الموهبة الملحوظة للكاتب فإنه كان ينظر إليه بعين الحذر باعتبار أنه من أصول إيطالية وأن أسرته جاءت إلى فرنسا في منتصف الحرب العالمية الثانية، أي أنه ليس كاتبا فرنسيا خالصا، ولذا فإن أبطال روايته يحملون أسماء من قوميات عديدة منها العرب خاصة تونس. كان فوز موديانو بمثابة مفجر كنز الموهبة التي يمتلكها رغم أنه، حسب رأيي، لم يكتب فيما بعد رواية بالتدفق نفسه لرواية «شارع الحوانيت المعتمة» وقد ظل يحلق في بقية أعماله حول مسألة الذكريات المستعادة لدى أبطاله وهي مسألة تستهوي كثيرا القارئ في القرن العشرين. في تلك الفترة بدأت الكتابة في الكثير من الصفحات والمجلات الأدبية وكنت أول ما أكتب هو مقال عن موديانو وبدأت أتفاءل به، وكان فاتحة خير بالنسبة لي ومنها مقال حوله منشور في الصفحة الأدبية لجريدة المساء القاهرية، وقد حدث أن الكاتب الكبير الراحل أحمد بهاء الدين قد كتب مقالا في مجلة العربي الكويتية التي كان يرأس تحريرها قال فيها إنه في شبابه كان وأقرانه يقرأون عن الأدباء المعاصرين له مثل أندريه مالرو والبير كامي وجان بول سارتر وتساءل بحسرة ملحوظة إن كان هناك كاتب يتابع الحركة الثقافية العالمية وعلى التو أرسلت له مقالي الموسع عن باتريك موديانو تحت اسم الموديانو، وعلى طريقة الأساتذة الكبار فإن الرجل لم يتأخر في النشر وكتب لي ألا أتوقف عند الأدباء الفرنسيين، فكتبت له عن الأمريكي الزنجي جيمس بولدوين، وعن البريطاني أنتوني بيرجيس، وعن البلجيكية فرانسواز ماليه جوريس وعن الكولومبي ماركيث، والحقيقة أن الرجل ظل ينشر لي مقالات بشكل منتظم طوال الفترة القريبة التي عمل فيها في العربي، وعندما جاء الدكتور محمد الرميحي فتح لي باب النشر لكن ليس بالإيقاع نفسه، ما دفعني إلى الكتابة في مجلات أخرى حول الجيل نفسه ومنها الهلال، والفيصل، والدوحة، وكنت أفضل دوما أن أكتب عن الروايات الجديدة لموديانو ومنها «دولاب الطفولة» 1989 «والحي الضائع» و«رحلة الزفاف» وغيرها. وعندما ضمني مصطفى نبيل إلى طاقم مجلة الهلال وصرت سكرتير تحرير روايات الهلال صار كل همي أن أدفع بالروايات الحديثة المهمة إلى المترجمين ليترجموها ترجمة كاملة، وكانت السلسلة قد دأبت دوما على نشر الترجمة المختصرة فانتهي هذا العصر تماما طوال عشرين عاما تقريبا، وكان أول من فكرت فيه هو باتريك موديانو وطلبنا من المترجمين المألوفين اختيار روايات بعينها وترجمتها كاملة لنشرها ومن أبرز هده الروايات «شارع الحوانيت المعتمة» ويبدو أن موديانو قد خلب لب المترجم الذي اعتاد ترجمة أعمال جورج سيمنون ففوجئت به يترجم رواية أخرى لنفس الكاتب موديانو باسم «الحي الضائع» ولما كان من الصعب نشر روايتين للكاتب نفسه في نفس العام فإنني نصحت المترجم بتقديمها إلى سلسلة الرواية العالمية التي كان يشرف على تحريرها الناقد فتحي العشري، وقد أحدث نشر الروايتين نوعا من الحراك الأدبي وقد بدت هذه الكتابات تثير الدهشة وكما حدثنا الأدباء بمدى إعجابهم بالروايتن، وقد بدا من تعليقات الأصدقاء في الفيس بوك بالأمس عقب الإعلان عن فوز موديانو مدي ما تركته رواية «شارع الحوانيت المعتمة» في ذاكرتهم، وكان أطرف ماقرأت أن قارئا اشتراها ووضعها طوال هذه السنوات ضمن الكتب التي اشتراها دون أن يقرأها، ودون أن يتخيل أنها ستفوز بالجائزة علما أنني في فترة لاحقة من هذا القرن وقد وكل إلي من جديد الإشراف على روايات الهلال فكان أول شيء فعلته أن أعدت إصدار الترجمة بشكل جديد يعني هذا أننا لا نقرأ إلا الروايات الفائزة بالجوائز إذا كنا نقرأ في الأساس.. وأن هذه هي أهم سمة للجوائز الأدبية أنها تلقي الضوء الساطع على الأدباء ورواياتهم. الآن أستطيع القول إن جائزة نوبل تعود إلى رونقها ففي السنوات العشر الماضية مثلا منحت لكتاب بلا أهمية وبعضهم من النساء مثل النمساوية الفريدة يلينك، والرومانية هيرتا موللر، والشاعرالسويدي توماس ترانسترومر والكندية اليس مونرو، فالآن صار لدى القراء روايات لكاتب لم يقرأوهم ويمكنها اكتشاف فضاء رائع يدور حول مخزن الذكريات في داخل كل منا، وعن الذاكرة المنسية التي تتفتح أمامها أنوار تبدد ظلام النسيان وفقدان الذاكرة الغريب أن فترة ازدهار موديانو قد استمرت إلى آواخر التسعينيات وبدا صندوق الذكريات وكأنه قد فرغ ما عنده فلم يعد للكاتب وعالمه الألق الذي عهدناه به في روايات مثل «حادث مرير» عام 2003، و«مسألة شبابة»عام 2005 و«في مقهي الشباب الضائع» عام 2007 و«الأفق».