أكتب هذا المقال في اليوم الوطني، وأنا في القطار متجه من الأحساء، وقد أتيت من المدينة لكون عملي هناك، وأنا في الأصل من أبناء منطقة حائل، هذه الخريطة الكبيرة والتوقيت والاختلاف التضاريسي والأجواء والناس ومذاهبهم وطبائعهم في حدود سياسية واحدة نسميها الوطن جعلتني أحاول أن أفكر في معنى الوطن، ومعنى أن تكون مواطناً! إذا ما فكرنا في معنى الوطن فيجب ألا تكون هناك ضبابية في معناه أو في مفهومه. هناك جغرافية تمتد من الخليج شرقاً حتى البحر الأحمر غرباً، ومن أقاصي الصحراء شمالا إلى حدود جبال اليمن جنوباً، أرض شاسعة جدا تختلف في تضاريسها ما بين جبال ووهاد وصحارى وبحار ووديان، كما تختلف في أجوائها ما بين معتدلة وحارة. هذه الحدود تشمل ربما أكثر خريطة الجزيرة العربية، وينتشر فيها أكثر من عشرين مليون نسمة، يختلفون في توزيعهم المناطقي والعشائري والمذهبي والأفكار والسلوكيات وحتى الثقافات وربما يتعدى إلى اللغات كما هي بقايا لغة حمير في بعض القبائل التي تعيش في صحراء الربع الخالي أو تلك اللهجات التي نظن أنها عربية ولكنها تمتد إلى أبعد من ذلك. ما الذي يجعلني أسافر من المدينة حتى أصل الأحساء لكي أتفاعل مع رجاله في الاحتفال باليوم الوطني؟ ما الذي يجعلني أستقبل بكل سرور رسالة تهنئة بالوطن من صديق أو صديقة في أقصى الجنوب أو من الحجاز وأنا من أهل الشمال؟ سيكون الوطن هو الذي يجمعني معهم جميعاً لكني بالتأكيد اختلف عنهم في لهجتي وعشيرتي وسحنتي وطبائعي وعاداتي وتقاليدي وتصوراتي، وإن جمعتنا اللغة والدين. لي هويتي الصغرى التي تجاور هوياتهم الصغرى ولكننا نتجمع في الهوية الكبرى. مظلتنا التي تجمع هوياتنا في ظلها. الوطن هو الإنسان والأرض، كما أحب أن أكرر دائما، هو ذلك الانشداد الذهني والنفسي إلى بقعة جغرافية أو إلى إنسان أو إلى تاريخ في الذاكرة البعيدة أو القريبة حتى وإن كان هذا الانشداد مرهقاً لكوننا نبحث عن الفضل له وبه. الوطن هو التفاعل المشترك مع كل المختلفين معي تفاعلا يضعنا نبني هذه الأرض، ولا نفسدها بسبب انحيازنا لهوياتنا الصغرى على حساب هويات الآخرين. أن تعتز بهويتك فهذا حق لك، أما أن تضع هويتك كمنافس يلغي الهويات الأخرى فهذه مشكلة كبيرة ربما تؤدي إلى نفي الآخرين كلية هوية وأجسادا بالقتل أو الصراع المميت، وعلى هذا يتحدد معنى المواطنة في كونك تتحرك وفق الاختلاف والوحدة. أي تتحرك بحسب ما تختلف به مع الآخرين لتشكل وحدة أعم مثل الفسيفساء التي تختلف اللوحة فيها بتفاصيلها الصغيرة لكنها تعطيك لوحة فاتنة تجمع كل تلك الألوان المتضادة. معنى أن تكون مواطناً فهذا يعود إلى كيف تفكر في هذا الوطن. هناك من يريد من الآخرين أن يشبهوه على استحالة ذلك. أن تكون مواطنا لا يعني أبدا أن تلغي المختلفين داخل هذا الوطن. أن تتعايش معهم وليس بالضرورة أن تتفق معهم إلا في ما هو الصالح العام. الصالح الخاص يتراجع كثيراً أمام المصالح العامة للوطن. ربما تضطر إلى تغييب الهوية اختياريا من أجل إنسان آخر في أقصى الجنوب وقع في مشكلة إنسانية لا تخصه هو بحاله بل تعبر عن كل المواطنين، مأساة امرأة في الغربية ستحس بها أخرى في الشرقية، صاحب المذهب يجب أن يحس بمأساة صاحب المذهب الآخر. معنى أن تكون مواطنا هو أن تكون متعاليا على كل هوياتك الصغرى رغم اعتزازك بها، ومشكلا مع هويات الآخرين مجموعاً وطنياً واحداً، مجموعاً يعرف كيف يختلف وكيف يعتز بهويته دون أن يلغي هويات الآخرين.