دونما سبب واضح ارتبط الغناء للوطن والتلحين عربيا بالمارش العسكري وأن الأغنية الوطنية لوحة شعرية حماسية تحتاج إلى لحن حماسي ولا تصح تسميتها بالوطنية إلا بإيقاع «المارش» فقط ودليلنا إلى ذلك كثير من الأعمال الغنائية الوطنية في مصر ولدينا في المملكة واليمن والمنطقة سيما في المراحل المفصلية من تاريخ الأحداث في كل مكان حتى كدنا نلغي عن الأغنية الوطنية صفتها العاطفية بعد أن خصصت الأغنية العاطفية للمحبوبة والعشيقة وللتعامل من الطرف الآخر في الحياة العاطفية الاجتماعية والإنسانية ونفى الكل صفة العاطفة عن الأغنية الوطنية ونسي الكل أن الوطن هو العاطفة الثانية بعد عاطفة الأم «مصر هي أمي.. نيلها هو دمي، عفاف راضي» فالغناء للوطن عاطفة وأي عاطفة. أريد أن أقول إن الكثير من الملحنين وكبار الفنانين الذين اعتمدوا الفرق النحاسية والمارش العسكري لألحان الأغنيات الوطنية تنبهوا مبكرا لصياغة ألحان وطنية تداعب الوجدان وتناغم القلوب بوتريات من الآلات الموسيقية دون الآلات النحاسية ولعل من هؤلاء كان موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب الذي قدم الكثير من الألحان الوصفية والوطنية بألحان شجية بعيدة عن المارش والنحاسيات منها «الروابي الخضر» التي يقول مطلعها «ياليال الشرق هل عادتك أيام الغناء..» و«النهر الخالد» و«حيا على الفلاح» وغيرها. وفي بداية ثمانينيات القرن العشرين اجتهد الموسيقار جمال سلامة في تقديم وطنيات مليئة بالعاطفة وكان منها «بلدي.. يا بلدي» من أشعار عبدالرحمن الأبنودي التي لحنها لهاني شاكر ومحمد ثروت، والتي كانت بعيدة عن أجواء المارش ومفعمة في نفس الوقت بالأجواء الرومانسية المتناغمة مع الوجدان. سبق ذلك أيضا في أعمال من هذا النوع الموسيقار الكبير رياض السنباطي لأم كلثوم في تحفته من أشعار حافظ إبراهيم «مصر تتحدث عن نفسها»، ومن هنا بدأ الاهتمام أكبر في هذا الجانب من الأعمال الموسيقية والغنائية الوطنية، أيضا من الوطنيات الشهيرة دون المارش كانت أغنية محمد قنديل من أشعار علي أحمد باكثير وألحان أحمد صدقي «حي على الكفاح». ** حي على الكفاح في أرض الكفاح المؤمنة ** أحرارها نار ونور في الليالي المظلمة ** وصيحة الحر لها في كل قلب مئذنة وعند انطلاقته في شارع الفن تنبه فناننا الكبير الراحل طلال مداح وهو يصوغ لحنه الخالد «وطني الحبيب» الذي قدمه تحفة بعيدة عن الأجواء الحماسية حيث ظل قريبا من وجدان الناس إلى يومنا وإلى الغدين القريب والبعيد إن شاء الله، وربما كان سر هذا الجمال والبقاء أن طلال ابتعد عن الإيقاعات ذات العلاقة بالمارش. وفي المقابل، هناك الكثير من أغنيات المارش التي حققت نصيبها من النجاح مثل أغنية محمد عبده أيام حرب الوديعة من أشعار إبراهيم خفاجي «اوقد النار يا شبابها» بإيقاع المزمار الحماسي، وأغنية سراج عمر المارش المكتمل «بلادي منار الهدى» من ألحانه وأدائه وكلمات سعيد فياض، والتي جددت الأسبوع الماضي لتقدم في يوم الوطن بصوت راكان خالد وتوزيع أمير عبدالمجيد وإنتاج وإشراف موسيقي لوسيم باسعد.