الموسيقى هي جوهر الزمن، وهي بالتالي صيغة فنية للوعي به والتعبير عنه في قالب إيقاعي، بمعنى أن كل مقطوعة موسيقية هي بالضرورة مرآة لزمنها. حيث يمكن اختبار هذا المفهوم الجمالي عند مقاربة الأغاني الوطنية مثلاً، والتي تعكس إحساس المطرب والملحن والمؤلف بمعنى وقيمة الوطن، كما يبدو ذلك الفارق الحسّي على درجة من الوضوح عند مقارنة أغنية (وطني الحبيب) لطلال مدّاح، الملفوفة في تلابيب لحن إنطباعي رهيف يقوم على زفرات من الشدو التأملى الخافت، مقابل أغنية (فوق هام السحب) لمحمد عبده، المحمولة على ضربات إيقاعية خاطفة وسريعة وصاخبة، وكأن التعبير عن لحظة التماس بالأرض، وتوليد مفاهيم الفرح بالوطن، المعبّر عنها من خلال الأغنيتين، يمكن أن تتبدل على قدر الوعي بالمضامين الوطنية والروحية، وعلى قاعدة الإحساس بالزمن، على اعتبار أن الموسيقى تعني التفكير والتعبير بواسطة الأنغام. ربع قرن تقريباً هي المسافة الزمنية الفاصلة بين الأغنيتين(1380ه -1406ه). وهي مدة كفيلة بتغيّر جملة من الأحاسيس والوقائع المتعلقة بمفهوم الوطن. فأغنية (وطني الحبيب) التي صاغ كلماتها المهندس الدكتور مصطفى بليلة، إنما تولّدت سياقاتها الغنائية (الشعورية واللاشعورية) داخل لحظة أفقية منبسطة أشبه ما تكون بالفضاء الريفي الرعوي، توحي بطلائع الربيع، مع ظلال من الروحانية المؤكد عليها دائماً في مجمل الخطابات الجمالية الوطنية من واقع قدسية المكان، حيث كان الوطن الوليد، الآخذ في التشكل يرسم ملامح وجوده بهدوء، فيما كتب الأمير بدر بن عبدالمحسن كلمات (فوق هام السحب) إثر مراكمات تنموية، ومن منطلق لحظة أمجاد وطنية صريحة، حقق فيها الوطن قفزات على أكثر من مستوى، وبالتالي صارت تلك الوقائع المادية تعمل كرافعة للنص، ودافعة لبنيته الإنشادية. بموجب ذلك الوعي بإيقاع اللحظة، يُلاحظ أن أغنية (وطني الحبيب) تستدعى مفردة (الوطن) بصراحة لفظية، مسترخية على مهاد من المفردات المُحيلة لمقومات روحية ومادية كالثرى، والربى، والسماء، والربوع، والسهول، المعبّر عنها بموسيقى خضراء مشتقة من المروج، والتي تنم عن فرح بوجود كيان يستجمع مقدراته المادية واللامادية. والتي تؤكد في نهاية المطاف على الوطن الإستثناء الذي لا يقبل الشراكة حين يتعلق الأمر بحب الأوطان (وطني الحبيب وما أحب سواه). وبالمقابل، تغيب مفردة (الوطن) في أغنية (فوق هام السحب) لتحضر مفردات (البلد...الديار) محفوفة بما يعضّدها من مفردات العزة، والإباء، ومراودة النفس بالإرتداد إلى الوراء، حيث تحضر متوالية بناء الدولة وتعزيز النسيج الإجتماعي كالسيف، والصحراء، والعرق، والدمع، والدم، والأقدام الحافية، المنضّدة كأنغام في نسيج خضرة العلم الخفاق، مع التأكيد أيضاً على الوطن المعشوق والمستلخص الذي لا يُنازع في فرادته (أنت ما مثلك بهالدنيا بلد). هنا تكمن مفارقة لا تخلو من الدلالة، إذ تبدو أغنية (وطني الحبيب) عصرية وذات طابع مديني، كما تحمل سمة الراهنية أكثر مما تبدو عليه أغنية (فوق هام السحب) ليس بسبب فصاحة الأولى مقابل شعبوانية الثانية، بل لأنها امتلكت من الوجهة الفنية والموضوعية القدرة على التماس بالمكان والتقدم في الزمان، فيما حققت الثانية إمكانية التلفّت إلى الوراء واستنهاض المكامن الماضوية بدعوى التأصيل، كما تشي سياقات النص ومبررات تولّده. وهذه المفارقة هي التي أسست لإيقاعات الأغنيتين، حيث لحن طلال مدّاح أغنيته وأداها بمقتضى إحساس على درجة من التهادي، فاستجلب إيقاعات اللحظة الخارجية إلى سياقات اللحن، كما اتكأ محمد عبده على مرجعية فلكلورية، لحن بموجبها أغنية وغناها وفق نفرة وطنية مصعّدة، بمعنى أن اللحنين بما هما نتاج قامتين موسيقيتين، يمثلان وعيين وإنفعالين بمعنى (الوطن). حيث انعكس في النسيج الحسّي للأغنيتين إحساس كل حنجرة وخبرتها الصوتية بالمكونات الروحية والمادية للحظة، وهو ما اتضح بشكل صريح في مجمل المفاصل، إذ أن اللحنين بكل ما فيهما من ذاتية في كلتا الأغنيتين، لم ينفصلا عن موضوعية الزمن، وبالتالي بدت كل أغنية وكأنها العنوان الإيقاعي للحظتها، التي لم تسمح للمحسوس بالظهور إلا من خلال سلطة الشكل الذي اعتمده كل منهما. من هذا المنطلق يمكن ملاحظة تعمّد طلال مدّاح استهلال أغنيته بافتتاحية حماسية مفتعلة، أشبه ما تكون بالمارش العسكري، حتّمها موضوع (الوطن) وهو ما يعني خضوعه الواعي أو اللاواعي للإعتبارات الشكلية للموسيقى الوطنية، كما بدا ذلك واضحاً من خلال إصراره على مفصلة الأغنية بتلك المادة اللحنية التي لا تبدو متواشجة أو منسجمة تماماً مع أجواء الأغنية، بل مغتربة عن سياقات النص أيضاً، إذ لا يترقق اللحن ويأخذ مجراه الإيقاعى الحميم إلا عندما يلتحم عضوياً بالكلمات، أي بمجرد أن يتلفظها: روحي وما ملكت يداي فداه وطني الحبيب وهل أحب سواه وطني الذي قد عشت تحت سمائه وهو الذي قد عشت فوق ثراه وطني الحبيب وهل أحب سواه أما محمد عبده فيلتحم بلحنه مباشرة مع النص، بدون مقدمات إحمائية. وذلك من منطلق الاستجابة الحسّية للضرورات الشكلية، ومن خلال التعامل الكامل مع موسيقى مشبّعة بالإيقاعات الراقصة، مع انصراف مقصود عن توظيف العناصر والأفكار اللحنية المركّبة. وكأنه بقدر ما يستخدم الإيقاع كعنصر تعبير فني على درجة من الغنى، يستفيد من طاقته على الاستثارة الفورية والتهييج الجماهيري، والإتكاء الصريح على تعزيم لحنه بنكهة شعبية طاغية، حيث يستنفر المستمعين للإنشاد معه: فوق هام السحب وان كنت ثرى فوق عالي الشهب يا اغلى ثرى مجدك لقدام وامجادك ورا وان حكى فيك حسادك ترى ما درينا بهرج حسادك أبد أنت ما مثلك بهالدنيا بلد والله ما مثلك بهاالدنيا بلد وفيما يبدو استطراداً في التغني الرومانطيقي بالوطن وتعداد مآثره وهِباته، يواصل طلال مدّاح تأصيل أغنيته على جمل لحنية ذات رنين هادئ وعميق، ليرسم دراما إنسانية أرضية، وكأنه ينقاد إلى إيقاع اللحظة أو يحاكي اشتراطاتها، بتحشيد الصور الحسّية وصقلها في نغمات وئيدة وعريضة: وطني الحبيب وانتَ موئل عزة ومنار إشعاع أضاء سناه في كل لمحة بارق أدعو له في ظل حام عطرت ذكراه وطني الحبيب ولن أحب سواه مقابل تلك النبرة المنخفضة، يبتني محمد عبده أغنيته على جُمل لحنية طويلة ومسترسلة، ويعضّد لحنه بضربات نغمية جريئة ذات طابع تكراري، تتناسب بنيوياً مع طبيعة الكلمات وبهجة زمن المنجزات: من على الروضه مشى حافي القدم...يستاهلك ومن سقى غرسك عرق دمعٍ ودم...يستاهلك..يستاهلك ومن رعى صحراء الضما إبل وغنم...يستاهلك...يستاهلك...يستاهلك ولأن المحتوى الروحي كان على درجة من السطوة في الأغنيتين، بدا واضحاً أن طلال مدّاح قد تفاعل مع متطلباتها فانعطف بلحنه نحو تحويلات نغمية أشبه ما تكون بالتراتيل، من خلال خطوط لحنية رقيقة ولينة أخاذة، حيث انتقل إلى وساعات السماوي وإن لم يغادر الأرضي، بمجرد أن أحدث تماسه مع الكلمات الموحية بقدسية المكان تحول إلى ما يشبه أداء الجسيس الذائب في لوعة المقامات حين غني: في موطني بزغت نجوم نبيه والمسلمون استشهدوا بحماه في ظل أرضك قد ترعرع أحمد ومشى منيباً داعياً مولاه يدعو الى الدين الحنيف بهديه زال الظلام وعززت دعواه في مكة حرم الهدى وبطيبة بيت الرسول ونوره وهداه وطني الحبيب وهل أحب سواه لكن محمد عبده لم يكسر استرسال لحنه، بل مزج حتى النفحات الدينية الخاطفة في الإيقاعات الراقصة، فيما يبدو حالة من الاندماج التام في طقس الوطن، وإن أزاح اللحن عن شعبوانيته بعض الشيء إلى ما يشبه الإنشاد الأوركسترالي، مع إفساح مساحة للكورال في منعطفات صوتية محتّمة بطبيعة الكلمات القائمة على جماعية الغناء، الأمر الذي عزّز بدوره حس الدمدمة والقتالية ليصعد اللحن باتجاه عمودي مع انحياد ملذوذ ناحية المكوّن الصحراوي في أداء أقرب إلى صيحات (العرضة) الحربية. ولكنه لا يلبث أن يستعيد إيقاعه الاستنفاري: نستاهلك يا دارنا يا دارنا...برد وهجير نستاهلك يا دارنا...وخيرك كثير من دعى لله بشرع وحكم...يستاهلك ومن رفع راسك على كل الأمم ...يستاهلك ومن ثنى بالسيف نورك...والقلم...يستاهلك نستاهلك يا دارنا...حنا هلك أنت سواد عيوننا...شعب وملك وفوق...فوق هام السحب وإن كنت ثرى الإيقاع إذاً هو القانون المعياري للأغنيتين، بما هو الأساس الذي حدد منسوب العلاقة بين إحساس كل منهما باتجاه الشكل أو القالب اللحني. وعلى اعتبار أنه المدخل النفسي لضبط المواءمة بين الكلام واللحن. حيث لعبت المشاعر الوطنية الدور المركزي من الوجهة المضمونية، باعتبارها البطل الخارجي أو الموضوعي، فيما حضر الإيقاع كمعادل للإحساس الشخصي، وكمحرك داخلي يتم بموجبه حساب الفارق الشعوري إتكاء على طبيعة التعبير النغمي. كما ساعد الإيقاع أيضاً، وبشكل واضح على إبراز المعنى الجمالي في كل أغنية، وبيان مكامن حيويتها، والأساس الذي ابتنت عليه تكوينها النغمي، وما هيأته من أثر عاطفي. هنا يكمن سر نهوض أغنية (وطني الحبيب) على لحن استرواحي، هادئ النغمات، مبعثه خلجات النفس الخفية، منذور كأسلوب تعبير موسيقي، لفتح مساحات نغمية متفاعلة مع المثل العليا لمفهوم الوطن، وتوليد شحنات شعورية طرية، يخلّف رنينها العميق إحساساً له قابلية المكوث في النفس، نتيجة كثافة العاطفة التي حملتها الوتريات وبمقتضى الشجن المتأتي من حنان النقرات، المستنطقة بأداء فردي حميم، أخرج بموجبها العود كآلة تعبير عن الوجدان، ما استبطنه اللحن من طاقة رومانتيكية كامنة، والتي كانت بمثابة العصب الذي يشد اللحن، وما اختزنته الكلمات من نداء إنساني عميق مشبع بالحب والأمل والطموح والحنان والسلام، أو هذه هي متوالية (الوطن) كما استشعرها طلال مدّاح. أما محمد عبده فقد استشعر (الوطن) من منظور إيقاعي بسجيته الشعبية، وبتعبير موسيقي على درجة من البنائية والرقي، حيث ابتنى الصرح اللحني لأغنية (فوق هام السحب) على جنوح إلى الإيقاعات النشطة والسريعة، وميل واضح إلى التطريب والترقيص حد التهييج، من خلال لحن بطولي، يوحي بالفرح والإنتصار. كما حملت جُمله اللحنية نفحات التمجيد والإعتداد بالذات الجمعية والمكانية، إتكاء على الوتريات أيضاً المستدمجة حد التطابق مع النقريات، ولكن من منطلق تحشيدها في حزم نغمية طويلة ومسترسلة، تتماهى بنيوياً مع صليل السيوف، وهتافات الإحتشاد الإجتماعي، وهنا يكمن سر انحيازه بالشكل التكويني للحن عن معماريته وثقافويته ليضفي علِيه نكهة شعبية، فيما يبدو عودة واعية إلى عاداته الموسيقية، أو ارتدادة مقصودة إلى ينابيعه وأحاسيسه اللحنية الأصيلة بمعنى أدق، حيث يتجلى في لونه الغنائي الشعبي المصعّد، المطمور تحت زخرف نغمي.