هو الوراق وابن الوراق ومن عائلة الوراقين الذين تركوا بصمة في الثقافة السورية، لم تستهوه المدارس والصفوف، ولكنه أحب الكتاب حباً لا يعادله حب وخبره وتمادى في معرفة أصله وفصله وحسبه ونسبه، تتلمذ في مهنة الوراقة في أسواق حلب ثم انتقل إلى دمشق وكبر فيها، ولما كبر كبر عليه العتب واللوم لأنه يبالغ في أسعار الكتب، كان له الفضل في جمع الكثير من الكتب التي طبعت أجزاؤها في بلدان متباعدة لتكتمل بين يديه فلم يثنه عن هذا تعب السفر والبحث والتجوال فلقد كان هذا الهاجس همه الذي يلاحقه يومياً، أراد أن يكون سباقاً دائما، وجرى إلى بلدان كثيرة ليعود بكتاب ولو بنسخة واحدة منه فان لم يكن فبصورة منسوخة من هذا الكتاب لكي يروي عطش باحث لا يكتمل بحثه إلا إذا استطاع أن يذيله باسم هذا المرجع الذي اقتناه كاملاً وليس بجزء منه، علمني هذا الرجل من ضمن ما علمني أن أكثر الكتب قيمة ربما تلك المصفرة والمهدودة والمتهالكة، و أن البحث عن الكتاب لا يقل أهمية عن البحث فيه. كان سروره عالياً عندما يربح بصفقة من البيع ويبدي ذلك أيضا عندما يتعب طويلا لأجل استحضار كتاب من المستودعات المظلمة والمغبرة بعد ثلاث محاولات أو أكثر وقد يكون قيمة هذا الكتاب مائة ليرة فقط، لم يعتمد على الحاسب في عمله بالرغم من أن مكتبته كانت تحتوي أكثر من عشرة آلاف عنوان تسوقها من عدة بلدان وفي كل عام يزيد عليها فلم أر في حياتي رجلا تسعفه ذاكرته في كتبه وأعدادها ومواضعها كما كان هذا الرجل فلقد كان يتذكر رفوف مخازنه ومحتوياتها. لم تغره المنابر والاحتفاليات فما كان يتقن الخطابة والفصاحة ولكنه كان لا يقبل أن يتخطاه أحد في التسوق للسوق السوري و أجزم أنه كان يعرف موضوعات كتب مكتبته الكثيرة عملت معه خمسة أعوام لم أتفوق عليه مرة ، لم يقبل كثير من الناشرين على العمل بشراء وبيع الكتب التي يضرها ويؤذيها الحمل بكلتا اليدين وبحذر وعناية لأنها طبعت قبل أكثر من 100 عام من الورق القابل للكسر، ولكن جمال كان يغريه هذا، بل كان يعشقه ويستهويه لم يمنح الرجل ترخيص ناشر لأنه لم يحصل على الشهادة الثانوية وبقي طلبه مركونا في وزارة الإعلام طويلاً ولكنه منح اللقب بالصدفة عندما شاهد طلبه أحد أركان الثقافة، وقد كان الطلب مذيلا بالقرار... عدم الموافقة....فقال الرجل لأصحاب الشأن :لماذا لم توافقوا على الترخيص فقالوا: لا يحمل شهادة «صفن» الرجل وقال : امنحوه الترخيص باستثناء يا سيدي فالعبرة ليست في الشهادة فيا ليت لدينا الكثيرون مثله من غير شهادات كان يصنف بعض الكتب في الرفوف السفلية من المكتبة ويقول : يجب أن ينحني الناس عندما يريدون الاطلاع عليها واقتناؤها لم أره يوماً إلا ملحوقا بالوقت فكان يقول إن اليوم ال24 ساعة لا يكفيني يجب أن يكون على الأقل 30 ساعة لكي يكفيني فلا يحضر على موعد إلا متأخراً بالمكتب والمنزل والشارع وراقبته يوما فكان كما هو يتأخر حتى على الإفطار في رمضان ولو كان في الصيف القاسي عندما وقع عليه خبر موت أخيه أكمل البحث عن مجموعة من الكتب التي تخص صاحب رسالة جامعية بعد أن قال : إنا لله وانا إليه راجعون وأكمل تحضير قائمة المراجع ولما انتهى خرج من المخزن، (كان متهماً بالبخل ولكني ما رأيته بخيلا قط بل رأيت رجلا تعز عليه النعمة، ولكن حسن حاله كان يدفع البعض لاستغلاله،لم يخجل يوماً الطلب من أحد العارفين تعليمه بأمر ما سواء كان أكبر منه أو أصغر منه سناً، فالمهم أن يتعلم ولا قيمة أن كان المعلم طفلا، جمال ناصيف أعز الكتاب وقدره حق قدره فاستودعه في مخازنه حتى أن نفد من مخازن صاحبه بقي عنده فلو بحث المصريون عن كتاب انساب الخيل لابن الكلبي المطبوع قبل أكثر من مائة عام في دار الكتب الوطنية لما وجدوه ولكنهم حتماً سيجدونه عنده معززاً مكرماً يحمله من مكان إلى مكان كما تحمل الأم رضيعها هذا الرجل الذي أحب أن يكون ميدانه عشرين باحثاً يدلهم جميعا ويحضر لهم مراجعهم ويتغزل بطلباتهم وأشكالها وألوانها ليشفي غليلهم ولو على سبيل الإعارة فقد كان يقول انجدوا طالب العلم كان يجري كل هذا بهدوء وبلا ضجيج، وقد ارشد احد الباحثين في مكتبة غير مكتبته إلى مراد في الكتب لوقت فناوله مبلغاً كهدية لفطنته وخبرته ولم يعتقد ولو لحظة انه يهدي شيخ الوراقين .