يترجل الناشر من الطائرة أو من سواها من وسائل النقل في المدن العربية، وفي قلبه الكثير من القلق وأسئلة تدور وتجول في قلبه، لكن الوضع في الرياض يختلف كلية حيث يقف الناشر على أرضية متينة، تقوم على الثقة واليقين ويشعر أنه في أمان فلا مؤسساتها تشتري كتبها لأجل سواد عيون الناشر القادم من مدن بعيدة، أو تفعله دعما أعمى، ولكنها تشتري من كل جديد ما يناسبها فقط، حتى زوار المعرض لا يشترون كتبا للزينة، أو متاعا ولكن عندما يطلب منك زائر قائمة الكتب ويمضي، فإنه يعود بعد وقت وقد أصبحت القوائم ممهورة برغبات أصحابها وطلباتهم. طقس المعرض في الرياض يجعلك تعتز وتفتخر بمهنتك كناشر وكل فريق العمل يعاملك باعتبارك صاحب رسالة، بخلاف الكثير من إدارات المعارض التي تعامل الناشر كمذنب حتى تثبت براءته، حيث ينظرون إليك بعين الريبة حتى أنني تخيلت أحد مديري معارض الكتاب العربية، يرغب وبشدة في تركيع الناشرين ويزحفهم، وأحيانا يطلب لهم الشرطة. أما في الرياض فتحتفي المؤسسات العلمية بالناشرين والضيوف ففي كل يوم من أيام المعرض تكون هناك دعوة يتعرف الضيوف من خلالها على هذه المؤسسة وهيكلتها ودورها وخدماتها ونظام العمل فيها، ونظام الأمان الذي صمم لكي يحميها من النار أو الماء أو غيرها من الأخطار، تنتهي الدعوة بوليمة غداء يقدم مدير المؤسسة فيها أحيانا الطعام بيده للضيوف. من ذكرياتي في معرض الرياض عام 2008 أتذكر أنني وصلت مبكرا إلى المعرض قبل زملائي بثلاثة أيام، فكان علي أن أسهم في مساعدة من لم تصدر تأشيرته من الناشرين السوريين من سفارة المملكة في دمشق، إضافة لترتيب جناحي، توليت إحضار كتب زملائي من المخازن، واستعنت بأحد العمال العرب ليرتبها على الرفوف والطاولات وأرشدته بتعليماتي ودربته وصرت أغيب عنه ساعة أو نصف ساعة لأعود وأصلح بعض الأخطاء في الترتيب وهكذا مرتين أو ثلاثا وفي الرابعة كنت أدعوه أن يناولني كتابا محددا فأذكر اسمه وأشير بيدي ويناولني وأضعه على الرف بجانب نفس الموضوع، وقلت أخيرا : ناولني أطلس العالم الصحيح فاحتار ولم يفعل وبعد أخذ ورد ولم يناولني الأطلس فقلت له : ما أصابك يا رجل قال أنا لا أعرف القراءة والكتابة لم أصدق ما أسمع حقيقة ولكني عدت بالذاكرة إلى الوراء ساعة فتذكرت حقيقة ما كان يجري فثرت غاضبا ومضى المعرض. شاهدت قارئا يتجول ويختار من الكتب بطريقة تختلف عن غيره أخذت أنصحه ببعض الكتب وهو ينظر إلي ببرود ظاهر بداية ثم بعد مدة وبينما أنصحه أن يختار كتاب ... «العقل واستخدام طاقته القصوى» ... لتوني بوزان رد الرجل قائلا: كل يمدح ما عنده... تغضبني الكلمة، فأرد عليه : ولكني لم أمدح كل الكتب التي بحوزتي ولي موقف من بعضها التي أعرضها، قلت في نفسي إن هذا القارئ يبدو عليه الاحتراف في اختيار الكتب فتركته ومن خلال الحديث تبين أنه صاحب مكتبة من الدمام. في الرياض يحط الناشرون رحالهم ويعرضون كتبهم ولكن يحط قبلهم تعطش الناس للمعرفة، ولقد رأيت الناس يشترون كل عام بمبالغ تفوق خططهم، ويبقى عليهم مبالغ تعتبر دينا للعام المقبل، كنا كثيرا من الأحيان لا نعرف إلا اسم الرجل الأول وأحيانا جواله ولا نعرف نسبته. في الرياض يأتي القراء الذين يحملون طلباتهم ورغباتهم أفواجا، وقد كنا نحاول جاهدين توفير جلها فيأخذونها ويمضون وقد ينتهي هاجسهم ولكن القسم الذي لم يتم توفيره من الكتب يبقى هاجسنا نحن بالبحث عنه، لأنها عناوين مثيرة للبحث عنها ومازلت ومنذ عام 2000 حتى اليوم وأنا مشغول بالبحث عن كتاب طلبه مني قارئ باحث أغواه البحث عنه ولم أجده، وفي الرياض لم أجد أحدا من القراء يقتني يوما كتابا مصورا أو مزورا ولكنه يبحث عن النسخة الأصلية. الرياض مدينة كرامة الناشر.. فإنني رغبت إن مت أن تكرموني بالدفن في مدينة قبورها دوارس ومكتباتها شاهقة.