لم يكن الخبر الذي نشرته صحيفة الحياة في عددها الصادر بتاريخ 15 أغسطس تحت عنوان (الحصول على موعد في مستشفى حكومي يحتاج إلى 6 أشهر).. لم يكن هذا الخبر مفاجئا بقدر ما كان صادما لدرجة الإيلام، فهو ليس خبرا مفاجئا من حيث أنه لم يكشف جديدا ولم يعر مستورا، فموضوع المواعيد في المستشفيات الحكومية وطول فترة الانتظار للحصول على موعد كشف أو سرير تنويم بات من الأمور التي يتداولها الناس في أحاديثهم اليومية وتعج بها صفحات الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي.. فهو لذلك ليس بالخبر الجديد أو الحدث الفريد.. وإنما كان ذلك الخبر صادما لأن ما يترتب عليه من مدلولات تفصح عن واقع مؤلم يعيشه عدد كبير من المواطنين في بلد أنعم الله عليه بنعم لا تعد ولا تحصى وثروات يحسدنا عليها الكثيرون.. وقيادة واعية مخلصة تضع هموم المواطن فوق كل اعتبار.. وكفاءات وطنية مقتدرة في مختلف الميادين والتخصصات.. أمران لا يمكن للإنسان تجاهلهما.. والانتظار طويلا وهما: التعليم.. حتى يكبر.. والمريض.. حتى يشفى. ولا أكتمكم أنني كنت قد عقدت العزم فيما بيني وبين نفسي على أن أكف عن الكتابة في المواضيع التي تثير الحساسيات وتكشف العورات وتخلق العداوات وأن أكتفي بالحديث عن الإيجابيات.. إلا أنني اضطررت للتراجع عن هذا القرار تحت ضغط الصور المؤلمة وتكرار القصص والحكايات المحزنة ومشاعر اليأس والإحباط التي باتت تحاصرني صباح مساء في نظرات أولئك الذين اضطرتهم ظروفهم الصحية والمادية لمراجعة أحد المستشفيات الحكومية، فلا يكاد يمر يوم واحد دون أن نسمع عن حكاية مؤسفة أو أن يلجأ إلينا البعض للتوسط وبذل المساعي للعثور على سرير تنويم في أحد المستشفيات الحكومية.. بحكم علاقاتي السابقة بهذا الجهاز وأحيانا في بعض المستشفيات الخاصة التي انتقلت إليها عدوى انعدام الأسرة الشاغرة. ولعل مما يزيد من مشاعر الحسرة والألم أن ما نسمعه ونقرأه من تصريحات المسؤولين في وزارة الصحة لا ينسجم إطلاقا مع ما نشاهده ونلمسه على أرض الواقع وكأنما هؤلاء المسؤولون يتحدثون عن بلد آخر ويصفون واقعا غير واقعنا الذي نعيشه، فلطالما تحدث المسؤولون عن افتتاح العديد من المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية وعن الجهود الكبيرة التي بذلتها الوزارة للتغلب على مشكلة المواعيد ونقص الأسرة إلا أن ما نشاهده ونلمسه على أرض الواقع وما يردده أي مراجع لأي مستشفى حكومي خاصة في المدن الكبيرة يختلف تماما عما يردده المسؤولون في الوزارة.. ولعل هذا الواقع يدفعنا لا محالة للتساؤل عن الأسباب الحقيقية التي أفرزت هذا الوضع وعدم تناسب الخدمات الصحية المقدمة للمرضى مع الاعتمادات المخصصة للصحة رغم التوجيهات الصريحة والمتكررة لقيادتنا الحكيمة ورغم الدعم السخي الذي قدمته القيادة لوزارة الصحة. وكنت في مقال سابق قد تطرقت إلى هذا السؤال وحاولت الإجابة عليه.. وخلصت إلى أن الخدمات الصحية في بلادنا تعاني من أوضاع خلقتها تراكمات عديدة على مدى عقود من الزمن.. وأن وزارة الصحة بصفتها الجهة الرئيسية المسؤولة عن توفير الخدمات الصحية للمواطنين تعاني بدورها من مشاكل هيكلية وتخطيطية وإدارية وتنفيذية متعددة أدت في مجملها إلى فقدان البوصلة لدى مسؤولي الوزارة.. مما نتج عنه عجز الوزارة عن القيام بمسؤولياتها على الوجه المطلوب وفشلها في إيجاد حلول للمشاكل المتفاقمة التي باتت تقض مضاجع المواطنين وتكدر صفو حياتهم. إنني كنت ولازلت أؤمن بأن صحة الإنسان لا يجب أن تكون مجالا للتجارب وأن أي نجاح للوزارة في إصلاح أوضاعها يجب أن ينطلق من رؤية جديدة ويستند إلى آليات مختلفة.. ويتحقق من خلال إجراءات حاسمة وقرارات شجاعة تشمل طيفا واسعا من المجالات والمحاور ذات الصلة، بهدف الخروج باستراتيجية واضحة ومحددة وقابلة للتنفيذ تضع في الاعتبار عددا من المهام الرئيسية تشمل ضمن ما تشمل ترتيب الأولويات بشكل صحيح وإنشاء قاعدة بيانات صحية متكاملة تحدد الوضع الراهن والاحتياجات الحالية والمستقبلية بشكل يسهم في التخطيط السليم مع بذل كل الجهود للقضاء على المركزية والتركيز على التطوير الإداري والفني وأهمها تدريب وتأهيل العاملين والالتزام بمعايير الجودة.. وممارسة أساليب فعالة للتقييم والمحاسبة وزيادة التنسيق والتكامل بين القطاعات الصحية المختلفة بما فيها القطاع الخاص ودعم برامج الطب الوقائي وبرامج تعزيز الصحة والاهتمام بتطوير البنى التحتية والإسراع في برامج خصخصة الخدمات الصحية وفق النماذج التي تناسب نظامنا الصحي مع الاستفادة من تجارب الدول التي سبقتنا في هذا المجال وتطوير مراكز الرعاية الصحية وزيادة عددها بما يتناسب مع الاحتياج الفعلي.. وزيادة عدد أسرة المستشفيات الحكومية وخاصة أسرة العناية المركزة وتجاوز الأساليب البيروقراطية العقيمة في التواصل بين المسؤولين لضمان سرعة التنسيق.. ووضع برنامج زمني لمتابعة تنفيذ المشاريع الصحية والاستفادة من أي دراسات أو خطط استراتيجية متوفرة من مسؤولين سابقين وإكمال المناسب منها.. وأخيرا وليس آخرا التغلب على المعوقات الإدارية والنزعات الإحباطية ومراكز القوى داخل أروقة الوزارة التي تسعى إلى مقاومة التغيير وتؤمن بأنه ليس بالإمكان أفضل مما كان. والله من وراء القصد