تحدثت في المقال السابق عن الصائدين في الماء العكر، ممن ينظرون إلى الابتعاث الخارجي فقط على أنه مشروع تغريبي، كما يرى البعض منهم أنه لا حاجة إلى ابتعاث الطالبات حتى لو كن برفقة محرم، بدعوى أن الابتعاث يخالف عاداتنا وتقاليدنا ويضر أكثر مما ينفع. من المؤكد أن هذه الفئة من المتشددين - سواء كانوا من الجاهلين أو المتطرفين - قد تناست أمورا كثيرة، أهمها أن الإسلام حض المسلمين (عموم المسلمين وليس الرجال فقط) على طلب العلم الديني والدنيوي على حد سواء، كما حثهم على تحصيل كل علم فيه صلاح للبشرية أو إفادة لها، ولو فرضنا أن النساء توقفن عن مسيرة التعليم، فمن الذي سيقوم بالتدريس للفتيات؟ من سيقوم بعلاجهن؟ ألن يقوم الرجال عندها بتلك المهمة؟ ألا يعد هذا نوع من الاختلاط المذموم وغير المرغوب فيه والذي ينادون بمنعه وتجريمه من الأساس؟!. عادة ما تنظر مثل هذه الفئة في اتجاه واحد فقط، ولا ترى سوى الجزء السيئ من الصورة، فمنع النساء من التعلم من خلال الابتعاث هو تعقيم إحدى القنوات المهمة التي يتم من خلالها نشر التعليم وضخ المعارف وتوصيل الخبرات داخل شرايين مجتمعنا، ويخطئ البعض عندما يتصور أن الدول النامية فقط هي من تلجأ فقط للاختلاط بالثقافات الأخرى والتواصل معها، وهذا الاعتقاد ينم إما عن جهل أو سوء نية، لأن التواصل الإنساني بين شعوب الكرة الأرضية هو مفتاح تقدمها وجوهر تحضرها في كل العصور، فالحضارة الإسلامية اعتمدت قديما على مخرجات الحضارة الساسانية والحضارات الرومانية والبيزنطية، وفي عصر النهضة اعتمد العلماء على مخرجات الحضارة الإسلامية، وهكذا دواليك، يسلم كل جيل الجيل الذي يليه خلاصة خبراته وزبدتها، ليبني عليها ويطور منها ثم يسلمها لاحقا للجيل الذي يليه، ومثلما يحدث التطور رأسيا يحدث أفقيا أيضا. التواصل بين الشعوب والدول يثري التجارب ويزيد من فعالية الخبرات، وعندما كنت مبتعثا ببريطانيا كنت أشاهد طلبة من اليابان وماليزيا وإسبانيا، كما أنه من المعروف أن الولاياتالمتحدة تعج بمختلف جنسيات العالم من شرقه لغربه ومن شماله لجنوبه، فهل جميع هذه الدول متخلفة؟ وهل تعتمد على نفسها فقط في التطور والنمو أم تستعين بكافة طرق التواصل مع بقية الدول والجنسيات الأخرى لتستفيد وتفيد الجميع؟ أضف إلى ذلك تلك المنح التي يقدمها المجلس الثقافي البريطاني British Council للآلاف من مواطني كل دول العالم سنويا لدراسة ومعرفة الثقافة البريطانية عن كثب، والهدف من تلك المنح وأمثالها حول العالم هو نقل التجارب والخبرات من الدول الرائدة كالولاياتالمتحدة وبريطانيا وكندا لنشر العلم وتعميم الفائدة، وهذه المنح تجسد في جوهرها مشروعات حقيقية للتبادل الحضاري، وهي مشروعات راقية تسهم في تقارب الحضارات وكسر الحواجز وتلاقي الثقافات، وليس معنى ذلك أنه لا توجد سلبيات لمشروعات الابتعاث الخارجي، فلكل فكرة أو مشروع سلبياته وإيجابيته بطبيعة الحال، إلا أن الفيصل هنا هو نسبة السلبيات للإيجابيات ومدى إمكانية تعظيم الإيجابيات وتلافي السلبيات بقدر المستطاع. المبتعثون ما هم إلا رسل بلادهم للمجتمعات الأخرى، فسمعة الدول تختزل في سلوكيات أبنائها من المهاجرين أو المبتعثين، فإن كانت سلوكياتهم راقية ودودة عدت بلدانهم متحضرة واسعة الأفق، وإن دلت سلوكياتهم عن غلظة أو فجاجة اعتبرت دولهم متخلفة لا تزال في الطور البدائي من التقدم والتنمية، ونحن نحتاج لأن نعرف العالم بنا وبحضارتنا وبسلوكنا وبديننا، نريد أن ننفض عن أنفسنا تهم التطرف والإرهاب، وما يستدعي التعجب هنا أن هؤلاء المتطرفين ممن يطالبون بمنع الابتعاث وإجبار المرأة على القرار في بيتها هم أنفسهم من يطالبون الرجال بالسفر خارج حدود أوطانهم والانخراط في حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل بدعوى الذود عن الإسلام ومحاربة أعدائه، ومرة أخرى يسيئون فهم الإسلام، يخلطون الأوراق مع بعضها البعض، ويتصورون أنهم وحدهم فقط القادرون على الذود عن الإسلام والدفاع عن حرماته، يفرضون أفكارهم العليلة باسم الدين وينشرون معتقداتهم المضطربة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. أعتقد أنه قد آن الأوان لمواجهة مثل هذه القوى الظلامية الرجعية بكل حسم وبمنتهى الحزم والإصرار، لا لننقذ مجتمعنا من براثنهم المفترسة فحسب بل لننقذ حاضرنا ومستقبلنا أيضا.