في سياق التراشق المحتدم بين النخب والتيارات الفكرية المختلفة في الداخل، يحدث أن تتشظى القضايا الكبرى، والمواقف التي لا تقبل الانقسامات الحادة حولها، ليجري تحويلها إلى فتات وحصى يغري المزيد من التراشق الذي ينصرف الممعنون في فانتازيا تفاصيله عن الهموم الكبرى، والمقتضيات التي تتجاوز الرؤى الأحادية لتسهم بفاعلية في المصلحة الكبرى والمحصلة النهائية المفترضة. وحادثة مقتل المبتعثة السعودية (ناهد المانع) رحمها الله في بريطانيا تقدم أنموذجا لذلك التحوير غير الإيجابي لدلالات الأحداث والمواقف لدى البعض منا، ففي الوقت الذي لم تضق فيه بريطانيا بحجاب المبتعثة رحمها الله ولم تبدِ تحفظات تجاهه، رغم ما قيل عن البواعث المحتملة للمجرم وارتباطها بمظهر القتيلة، إلا أن الحادثة تظل فردية في نهاية الأمر، ولا تعكس موقف الحكومة ولا الشارع هناك، ورغم ذلك فإن بعض أصحاب المواقف المسبقة من الحجاب هنا عثر في الحادثة على ما يشبه الذريعة ليشنع على من يفترض فيهم الخصومة على الضفة الأخرى من مؤيدي الحجاب، ليتأجج بذلك سجال لا يقل ضراوة عن سجال آخر عن القضية ذاتها حول مشروع الابتعاث بين من يرى المضي فيه على اعتبار أن ما وقع للقتيلة أو غيرها من المبتعثين ممن تعرضوا لأية أخطار أو مضايقات لا يعني بالضرورة إخفاق هذا المشروع الحضاري، والذين يريدون استثمار الحادثة والحوادث المماثلة في الانتصار لآرائهم الرافضة له. وبين هؤلاء وأولئك تتسرب من بين أيدينا ورشقات سجالاتنا فرصة في غاية الأهمية في صياغة موقف وخطاب وطني موحد، يفصح أولا عن رفض ما حدث تحت أي مبرر أو دافع، ويعبر لأولئك الذين طالما صدرت إلينا عبر إعلامهم وصحفهم تهم الإرهاب والتطرف قياسا على حوادث عرضية وفردية مشابهة لما حدث لناهد المانع، أن الإرهاب لا دين له ولا وطن، وأن ما وقع في بلادنا يوما هو ذاته الذي يقع الآن في بلادهم، وإثر ذلك لا يكون منطقيا ولا عادلا أن تنسب تلك الحوادث هناك لعنصرية بعض الأفراد أو تطرفهم، بينما تتمطى رقعة الشبهة لدينا لتطال المجتمع كله وفكره وثقافته وحتى مناهج تعليمه. إن الجدل الدائر اليوم في كثير من أروقة الحوار ومظان الثقافة ودوائر الإعلام جدل فارغ عقيم، يتوخى الانتصار لرؤى ذاتية ضيقة، ويتقصد في كثير من تجلياته استفزاز الآخر والتهوين من شأن آرائه ومنطلقاته، غير آبه بقيم ورؤى أسمى وأرقى تتخطى الفئة القليلة والكثيرة لتعود نفعا على البلاد كلها.. أما ناهد فقد سلكت طريقا تلتمس فيه علما وفيه ماتت، وعسى أن يكون بإذن الله جسر روحها إلى جنة الخلد، لها الرحمة بإذن الله ولذويها الصبر والسلوان.