قبل ما يزيد عن أربعين عاما كانت فوهة بئر زمزم على سطح الأرض مجاورة للكعبة، وكان المكيون إذا جاءوا للحرم فإنهم يشربون من «الدوارق» الموضوعة بعناية على جوانب «الحصوات»، حيث كانت الطريق الرخامية الواصلة بين أبواب الحرم وصحن الكعبة في حدود مترين، وباقي الساحة الداخلية التي يصلي الناس على أرضها مرصوفة بالحصا، فكانت جميعها تسمى حصوات الحرم، وكان من الطائفين والمصلين من يحلو لهم الدخول إلى البئر وطلب شربة من زمزم من يد العامل الواقف على البئر الذي ينزل دلوه ويملؤه بماء زمزم ويقدمه ليشرب من تجمعوا حول البئر مباشرة من فوهة الدلو أو يصب لهم في «كاسات» نحاسية نظيفة حتى يتضلعوا، وربما نقده بعضهم قرشا أو قرشين يضعها في علبة خصصها عامل البئر لهذا الغرض وكان بعض الحجاج يحلو لهم شراء أمتار من القماش الأبيض والمجيء به إلى الحرم لغسله من ماء زمزم في البئر ثم نشره في حصوات الحرم بعد الظهر إلى العصر ليجف فتتحول الحصوات إلى بياض يغطيها بشكل بديع، فيما يكون أصحاب الأقمشة مسندين ظهورهم إلى أعمدة الرواق منتظرين جفاف القماش حتى يجمعوه ويطووه لاستخدامه في بلادهم كفنا لهم، وهناك يحفظونه في مكان آمن بعيدا عن الأرضة موصين أسرهم بتكفينهم به بعد عمر طويل! ولم يكن أهل مكةالمكرمة أو غيرهم يعتمدون على ماء زمزم في سقياهم على مدار أيام العام، بل كان بعض المحسنين وفي شهر رمضان فقط لا غير يستأجرون سقاة لجلب ماء زمزم لبعض الأحياء المكية وملء «أزيار» فخارية بهذا الماء المبارك، فيأتي صبية من الأحياء لملء أوان فخارية صغيرة لا تزيد عن ثلاثة لترات لاستخدامه في الإفطار فقط لا غير، أما في الحج فإن طائفة الزمازمة تقوم بتوفيره في مساكن الحجاج بكميات بسيطة مقابل رسوم يدفعها الحاج سواء شرب منه أم لم يشرب! ولم يكن يرسل إلى المسجد النبوي لا في شهر رمضان ولا في غيره شيء من ماء زمزم كما هو حاصل حاليا وعلى مدى أيام العام. وكان في أم القرى «سماكرة» يصنعون للحجاج عبوات من الزنك لا يزيد ما بها من زمزم عن فنجان شاي ويبيعون كل ثلاث عبوات بريال سعودي واحد «وأفلح» حاج من يستطيع شراء عبوات بعشرين ريالا، فإذا وصل الحجاج إلى أوطانهم كانت تلك العبوات أغلى هدية تقدم منهم لأهالي مدنهم وقراهم، فلا تنال القرية أكثر من عبوة بحجم فنجان شاي فتفتح وتخلط ببرميل كبير من الماء سعته عدة أمتار مكعبة فيتزاحم أهل الحي أو القرية على البرميل لينال كل واحد منهم نصيبه من ذلك الماء الذي اختلط بماء زمزم وقد يحصل في الموقع عراك شديد إن كان عدد المتزاحمين كبيرا! ثم جاء اليوم الذي يصر فيه مئات الآلاف من سكان مكة والمدن المجاورة على أن تكون سقياهم من مصنع زمزم ورأينا التريلات تحمل يوميا مئات الأمتار المكعبة إلى المدينةالمنورة ورأينا الحجاج والمعتمرين الذين أصبحو بالملايين يحمل كل واحد منهم عشرين لترا من مصنع زمزم، فإذا أرادت جهة الاختصاص تنظيم عملية التوزيع وتحديد ما يصرف لكل أسرة أسبوعيا بدأ الصياح والنياح.. إن هذا لشيء عجاب!!