رواية: بول أوستر ترجمة: أحمد العلي الحلقة الثامنة متجولا في البيت اليوم، بلا غاية، مكتئبا، شاعرا بأنني بدأت أفقد اتصالي بما أكتبه، مررت صدفة على هذه الكلمات في رسالة كتبها فان جوخ: «كأي أحد آخر، أشعر بالحاجة للعائلة والصداقة، العاطفة والوصال الحميم. لم أخلق من صخر أو حديد كصنبور أو عامود إنارة.» ربما هذا هو ما يهم حقا: الوصول لصلب الشعور الإنساني، على الرغم من البراهين. هذه هي أدق الصور: لا يمكن تقويمه، عالق في طين الذاكرة، لا مدفون ولا يمكن استرجاعه كاملا. ومع ذلك، كل صورة في حد ذاتها قيامة عابرة، لحظة إما أن تكون موجودة و إلا تلاشت. طريقته في المشي، على سبيل المثال، متوازنة بشكل عجيب، يرتد على كعبي قدميه كأنه سيرتمي للأمام، بعماء، نحو المجهول. أو الطريقة التي يتقوس فيها على الطاولة وهو يأكل، مشدودة أكتافه، يقضي على الطعام كاملا، لا يستطعمه أبدا. وأخرى، الروائح المنبعثة من السيارات التي يستخدمها للعمل: غاز، زيوت مسربة، دخان العادم؛ ضجة عدة حديدية باردة، خشخشة السيارة الدائمة وهي تسير. تذكرت اليوم أنني كنت برفقته في السيارة وسط بلدة نيوارك، لم يكن عمري أكثر من ست سنوات، وداس المكابح بعنف، الهزة الشديدة رمت برأسي على لوحة قيادة السيارة، حشد من السود اجتمعوا حول السيارة فجأة ليروا ما إذا كان كل شيء بخير، خاصة المرأة التي دفعت إلي ب كوز آيسكريم فانيلا من نافذتي المفتوحة، فأجبتها «لا شكرا» بأدب شديد، مذهولا بقدرتي على الإجابة حتى. وفي يوم آخر في سيارة أخرى، بعدها بسنوات، بصق أبي نحو النافذة ليميز بعدها أنني لم أقم بإنزالها، وبهجتي اللامنطقية وغير المحدودة لرؤيتي لعابه يسيل على الزجاج. وأيضا، كولد صغير، كيف كان يأخذني معه أحيانا إلى مطاعم يهودية في أحياء لم أعرفها من قبل، أماكن مظلمة مزدحمة بكبار السن، كل طاولة مزينة بقنينة سيلتزر ملونة بالأزرق، وكيف ازداد غثيانا، تاركا طعامي غير ملموس، وأكتفي بمشاهدته يلتهم حساء الشمندر، معجنات البايروجين، ولحوما مسلوقة مغطاة بالفجل. أنا، الذي تربى كطفل أمريكي، الذي يعرف عن أسلافه أقل مما يعرف عن قبعة رجل الكوبوي هوبالونغ كاسيدي. أو كيف، عندما كنت في الثانية أو الثالثة عشرة، أردت بشكل يائس الذهاب مع بعض أصدقائي لمكان ما، هاتفته في عمله لأحصل على إذنه، قال لي، في حيرة، وبلا معرفة لطريقة صياغة ما يريد قوله، «أنتم مجموعة من الأغرار»، وكيف، عبر سنوات بعدها، أنا وأصدقائي (أحدهم مات بجرعة زائدة من الهروين) نكرر هذه الكلمات كقطعة فولكلور، نكتة من الحنين لأيامها. حجم كفيه، صلابتهما. يأكل الطبقة المتخثرة فوق الشوكولاتة الساخنة. شاي بالليمون. نظارته السوداء نصف المؤطرة، مرمية في جميع أرجاء المنزل: على منضدة المطبخ، أو مفارش الطاولات، على حافة حوض الغسيل في الحمام - مفرودة دائما، تستلقي هناك كنوع غريب وغير مصنف من الحيوانات. مراقبته يلعب التنس. الطريقة التي تلتوي فيها ركبتاه أحيانا و هو يسير. وجهه. شبهه لأبراهام لنكولن، وملاحظة الناس الدائمة لذلك. جسارته مع الكلاب. وجهه. مرة أخرى، وجهه. أسماك استوائية. في أحوال كثيرة، يتراءى أنه يفقد تركيزه، ينسى من كان، لكأنه أضاع شعور الاتصال مع نفسه. مما يجعله عرضة للحوادث: يهشم ظفر إبهامه عند استعماله للمطرقة، عدد مهول من الحوادث الصغيرة بالسيارة. ذهنه الغائب وهو يقود السيارة: إلى الحد الذي يصير عندها مرعبا. ظننت دائما أن ما سيقتله هو حادث سيارة. عدا ذلك، صحته كانت وافرة لكأنه غير قابل للأذى، مستثنى من كل الأمراض الجسدية التي صعقت البقية منا. كأنما لا شيء يمكن أن يلمسه. طريقته في الحديث: يبذل جهدا هائلا ليجذب نفسه خارج عزلته، كأنما صوته غطاه الصدأ، فقد عادة الكلام. يهمهم ويتوقف كثيرا، يتنحنح، كأنه يريد أن يبصق وسط الجملة. تشعر، بشكل واضح، أنه لم يكن مرتاحا. وبنفس الأسلوب، كان يسليني دائما كطفل أن أشاهده يكتب اسمه. لم يكن بمقدوره ببساطة أن يضع القلم على الورقة ويكتب. وكأنه بغير وعي منه يؤجل لحظة الحقيقة، دائما ما يمهد لذلك بحركة مسرحية خفيفة، يدير يده لبوصة أو بوصتين خارج الورقة، كذبابة تأز في الهواء و تحصر تركيزها كاشفة بقعتها، قبل أن يستطيع الشروع في العمل. كان أسلوبا معدلا لطريقة آرت كارني في توقيع اسمه في فيلم العرسان الجدد. وحتى أنه كان ينطق الكلمات بطريقة مختلفة. «عالي» مثلا، بدلا من «علي»، كأن الحركة المسرحية في يده لها نظيرها في صوته، يمتلك ميزة موسيقية مرحة. وكلما رد على الهاتف، ستحييك «مرحباااا» غنائية. لم يكن تأثير ذلك محبوبا. كانت تظهره كمعتوه قليلا، كأنه ليس متناغما مع باقي العالم - لكن ليس كثيرا. لدرجة فقط أو درجتين. عرات لا يمكن محوها. في هذه الأطوار المجنونة المتشنجة التي يدخل فيها أحيانا، يخرج دوما بآراء شاذة، لا تؤخذ حقا بجدية، لكنه يستمتع بتأييد الشر ليبقي الأمور حية. إغاظة الناس تضعه في بهجة الأراوح، وبعد تعليق تافه على أحدهم، يقوم غالبا بقرص ساقه - في موضع الدغدغة. يحب حرفيا أن يعرقل ساقك. البيت مرة أخرى. مهما اتضحت درجة إهماله العناية به من الخارج، فقد آمن بطريقته هو. كمخترع غاضب يحمي سر آلة الحركة الأبدية، لن يطيق أن يتلاعب بها أحد. مرة، عندما كنا أنا وزوجتي نتنقل بين الشقق السكنية، قطنا في منزله لثلاثة أو أربعة أسابيع. وجدنا أن الظلمة في المنزل فادحة، أزحنا كل الظلال وسمحنا للنور أن يدرج للداخل. عندما عاد أبي من العمل ورأى ما فعلناه، طفى في غيظ مفلوت الزمام، قصي كليا عن أي استياء كان قد مر به. لم ينفجر بغضب من هذا الطراز إلا نادرا، ليس إلا أن يكون محصورا، معتدى عليه، مسحونا بحضور الآخرين. قد تطلق غضبه أحيانا الأسئلة عن المصاريف. أو تفصيل صغير: ظلال بيته، صحن مكسور، أقل لا-شيء على الإطلاق. غير أن غضبه هذا كان بين ثناياه - هكذا آمنت باستمرار. كالبيت الذي كان مرتبا بشكل جيد والآن يتهافت من الداخل، الرجل نفسه كان رزينا، خارقا ورابط الجأش، لكنه فريسة الكدر، بداخله عنفوان من السخط لا يمكن إيقافه. كافح طوال حياته ليتحاشى مجابهة هذا العنفوان، مربيا سلوكا تلقائيا يسمح له بتجنبه. يركن على روتين ثابت يحرره من لزوم أن يبصر ما بداخله وقت وجوب اتخاذ القرارات؛ الكليشيه يطفر بسرعة إلى شفتيه «طفل جميل، بالتوفيق»، عوضا عن كلمات يذهب خارجا للبحث عنها. تولى كل ذلك تسطيحه كشخصية. لكن في الوقت نفسه، كان ذلك ما أنقذه، ما جعله يحيا. إلى المدى الذي كان مؤهلا لأن يحياه.