خطيب المسجد الحرام: من صفات أولي الألباب الحميدة صلة الأرحام والإحسان إليهم    في أول قرار لترمب.. المرأة الحديدية تقود موظفي البيت الأبيض    الفرصة لاتزال مهيأة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    الثقة به مخاطرة.. «الذكاء الاصطناعي» حين يكون غبياً !    دراسة صينية: علاقة بين الارتجاع المريئي وضغط الدم    5 طرق للتخلص من النعاس    حسم «الصراعات» وعقد «الصفقات»    «مهاجمون حُراس»    984 ألف برميل تقليص السعودية إنتاجها النفطي يومياً    محافظ محايل يبحث تطوير الخدمات المقدمة للمواطنين    قبل مواجهتي أستراليا وإندونيسيا "رينارد" يستبعد "العمري" من قائمة الأخضر    المودة عضواً مراقباً في موتمر COP16 بالرياض    شرعيّة الأرض الفلسطينيّة    رودري يحصد ال«بالون دور» وصدمة بعد خسارة فينيسيوس    «الدبلوماسية الدولية» تقف عاجزة أمام التصعيد في لبنان    لصوص الثواني !    مهجورة سهواً.. أم حنين للماضي؟    «التعليم»: تسليم إشعارات إكمال الطلاب الراسبين بالمواد الدراسية قبل إجازة الخريف    لحظات ماتعة    محمد آل صبيح ل«عكاظ»: جمعية الثقافة ذاكرة كبرى للإبداع السعودي    فراشة القص.. وأغاني المواويل الشجية لنبتة مريم    جديّة طرح أم كسب نقاط؟    الموسيقى.. عقيدة الشعر    في شعرية المقدمات الروائية    الهايكو رحلة شعرية في ضيافة كرسي الأدب السعودي    ما سطر في صفحات الكتمان    البنك المركزي السعودي يخفّض معدل اتفاقيات إعادة الشراء وإعادة الشراء المعاكس    متى تدخل الرقابة الذكية إلى مساجدنا؟    حديقة ثلجية    الهلال يهدي النصر نقطة    وزير الصحة يتفقد ويدشّن عدداً من المشاريع الصحية بالقصيم    فصل الشتاء.. هل يؤثّر على الساعة البيولوجية وجودة النوم؟    منجم الفيتامينات    من توثيق الذكريات إلى القصص اليومية    قوائم مخصصة في WhatsApp لتنظيم المحادثات    الغرب والقرن الأفريقي    الناس يتحدثون عن الماضي أكثر من المستقبل    جودة خدمات ورفاهية    أنماط شراء وعادات تسوق تواكب الرقمنة    الحرّات البركانية في المدينة.. معالم جيولوجية ولوحات طبيعية    ترسيخ حضور شغف «الترفيه» عبر الابتكار والتجديد    أُمّي لا تُشبه إلا نفسها    كولر: فترة التوقف فرصة لشفاء المصابين    الأزرق في حضن نيمار    الاتحاد يتغلب على العروبة بثنائية في دوري روشن للمحترفين    المربع الجديد يستعرض آفاق الابتكار الحضري المستدام في المؤتمر العالمي للمدن الذكية    مبادرة لتشجير مراكز إسعاف هيئة الهلال الأحمر السعودي بمحافظة حفر الباطن    نائب أمير الشرقية يطلع على جهود اللجنة اللوجستية بغرفة الشرقية    أمير الباحة يستقبل مساعد مدير الجوازات للموارد البشرية و عدد من القيادات    المريد ماذا يريد؟    أمير تبوك يبحث الموضوعات المشتركة مع السفير الإندونيسي    ليل عروس الشمال    رينارد يعلن قائمة الأخضر لمواجهتي أستراليا وإندونيسيا في تصفيات مونديال 2026    التعاطي مع الواقع    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني وفريق عملية زراعة القلب بالروبوت    الداخلية: انخفاض وفيات حوادث الطرق بنسبة 50%    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني    همسات في آذان بعض الأزواج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عواصف الأسئلة...!!
قصة قصيرة
نشر في الرياض يوم 11 - 08 - 2005

بعيداً عما كان منك ومنه ومني.. وقد جئت فلم يرتج عليك ماؤك، أو يغشى البصر....
كأنما التقينا على موقد جمر فضولك، بعد أن اجتمع ثلاثتنا.. فيك، ربما لأول مرة.....
ها قد عنّ لك ان تبحث فينا علك تجد فيما نحن عليه ما آل إليه كل ما تبقى منك.
تجئ من حالك ليلك لحالك ظلمتك مبصراً فترى منك ما لم ننكره فما كان ومما سوف يكون.
وتنتشر هدأة سكونك لتلوب فينا بهول عواطف السؤال.... ولا تعدنا إلا بلهيب نار الإجابة.
هكذا إذن جئت لما احتشد فينا بفوضى كل ما احتشد فيك كي تطفئ جمر نارنا بلهب نارك ولا تعول على شيء مما كان وما هو كائن وما سوف يكون.
تريد أن تبدأ، والسلام.
وهذه البداية كيف تريداها...؟ هل ستأتي إليك.. أم تراك ستذهب لما فيك بحثاً عنها....؟
من تراه سيقترف إثم البداية.. أنت أم هو، أم اني أثم وحيد.... يسير مثقلاً بحمل المعاصي التي اقترفناها في كل ما احتسيناه من عمرنا الذي كان.
٭٭٭٭
لم تكن سفينة نوح تلك التي أقلتك وارتفع في صدرك هديل يغمغم بالدعاء.
لم يكن بحر هذا الذي تسبح فيه..
كنت تعوم في فضاءك داخل الطائرة بعد أن أقلتك من مطار جدة محطتها الأولى لندن ووجهتها مونتريال.
مغمض العينين مستسلماً لخدر دوار جاء معك، كأنما جاذبية أرض جدة ما زالت تصر على التشبث بك... أو أن مخدرها أخذ في الانسحاب من دمك، وكلما ابتعدت خفت هدير التنميل والدبيب.
لم يكتمل انسحاب جدة من دمك، بعد أن تلاشت أضواؤها وراء الطائرة التي مضت تخوض في ظلام فضائها باتجاه آخر.
لم يكن دواراً ذلك الذي عش رأسي، ولم يكن خدراً هذا الذي ينشب أظافره في مفاصلي.. كنت واقعاً تحت تأثير مفعول ما أصابني هناك.
س... ح... ر. نعم سحر
سحر حقيقي وليس حالة شعرية... أو وهم أو دجل أو خزعبلات.
كائن مسحور....؟
بعيداً عن وهم الظن... وهاجس الاحتمال.
لا تظن أن الأمر بسيط إلى هذا الحد.. فما أن يصيبك عارض غريب أو مريب.. أو يلتبس عليك حتى تبادر إلى القول بأن ما أصابك هو السحر... فبعد مضي نحو عام مما اعتراني علي.. بدأت أفكر في أمر نفسي بشيء من الجدية.
أعدت رصد ما أرابني في وفيما حولي في محيط كثير من علاقاتي الناشئة والطارئة والأصلية.
في البدء هالني ما كنت أظنه محيط الأصدقاء.
هالني ما فيه لي من كراهية وعداء.
هالني حجم غفلتي وغبائي.
كيف لم ألحظ أن أسود الوجوه كأبيضها، ليس سوى قناع.
٭٭٭٭
زوجتي أخذت ترقبني بصمت.
تحوم حولي بهدوء وحذر، ولم أشعر معه بما اعتراها من توجس قلق.
لما هو ضد طبيعتي الفوضوية من وحدة وصمت بلغ الحد الذي جعل أبنائي ينسحبون بهدوء ويتركونني أسير مقعدي صامتاً وحيداً، لا أريد مغادرته أحدق في الأشياء ذاهلاً، لا لأرغب في عمل أي شيء.
أراب زوجتي.. استسلامي لما حل بي وجعلها تخاف.
بدا لها انني ماض أغرق في بحر أقسى من الصمت بنوع غريب من التلذذ المريب.
لا يكاد يكسره سوى النباح الذي يصدر «تكيلا» الكلب الفرنسي الذي اقتناه فاروق وتعهد باطعامه والاعتناء به.
اتجهت ظنون زوجتي له.... كأنما هي قد وجدت حلا مقنعا.. فأصرت على اخراجه من البيت.
قالت: ان المسكن الذي يوجد داخله كلب لا تدخله الملائكة.
جهزنا له مكانا فانتقل للباحة.
خروج «تكيلا» لم يكسر الصمت.
ازداد نباحه وازدادت قسوة الصمت.
٭٭٭٭
ما كان وداعاً ذاك الذي تم في المطار. كانوا جميعا يدفعونني دفعا للرحيل.. يريدون أن أغادر جدة بأسرع ما يمكن... رغم انهم يعرفون انني قد لا أعود إليها سيراً على قدمي...
ابنتي توتا وحدها لم تكن تعلم بأمر سفري... وما كان لي الرحيل دون وداعها... في الطريق اتجهنا لمنزل خالتها حيث كانت هناك لأيام.
قلنا لها تعالي أبوك يريدك لأمر هام. جاءت مبهورة. قلت من داخل السيارة:
- أنا مسافر
فتحت الباب بخوف كأنها تريد اخراجي وقالت:
- يا مجنون
قالت أمها:
- والله مسافر
ضربت صدرها وقالت باكية:
- وأنا.... خذني معاك
قالت أمها مطمئنة:
- أخوك مسافر معاه
قالت محتجة:
- بس هو وعدني
خرجت من السيارة... تملصت من يدي قالت:
- منته راجع.... عارفة
قالت أمها تنهرها:
- هيا يا بنت بلا دلع... خليه يغير جو.
لم يكن أمر رحيلي يحتمل المماطلة أو التأجيل... وقرار عدم عودتي لا تقبل الجدل أو النقاش.
كان ابني ينهي إجراءات سفرنا... عندما شعرت بكل ما أجبرني على الرحيل يهجم علي دفعة واحدة كأنما جدة تريد التشبث بي لآخر لحظة، بعد أن سرى في جسدي تنمل كاد يشل حركتي وعامت أرض المطار تحت قدمي بدوار كاد يسقطني.
احتضنت زوجتي كأنما لاستند إليها في وداع ليس كالوداع.
- بدري على الطيارة..؟!
قلت بخوف:
- خلاص..!!
رأت في عيني شيء غير ذاك الذي تريد أن تقوله لحظة الوداع... وضعت يدها على كتفي.. دفعتني باتجاه بوابة السفر وهي تقول:
- استودعك الله الذي لا تضيع ودائعه...
خلف ظهري مضت تودع ابني وسمعتها تقول:
- لا أوصيك انتبه لأبيك...!!
٭٭٭٭
في الطريق للمطار خيم علينا صمت وترقب كان ابني يقود السيارة ببطء حذر، فمنذ خروجنا من المنزل في الحادية عشرة ليلاً، شعرنا اننا لم نكن نسير وحدنا في طريق المدينة حيث كانت هناك سيارة واحدة استقرت أمامنا مباشرة بعد أن.. اطلقت أضواء التحذير «الفلايشر» دون سبب.
كنا نسير بترقب في انتظار حادث يحول دون وصولنا للمطار، فيعيق السفر.. أو يؤجله في تلك الساعة من الليل، قبل موعد الطائرة بنحو ثلاث
قبل الجسر المؤدي لصالة المطار ابتعدت السيارة من أمامنا.
وصلنا دون أن نشعر بالارتياح أو تزول ريبتنا وتوجسنا... فنحن نعلم أن لا شيء يؤكد حقيقة السفر سوى اقلاع الطائرة.. أما قبل ذلك فإن أي طارئ داخل المطار كفيل بتأجيل موعد السفر.
٭٭٭٭
عندما حانت اللحظة التي يجب أن نغادر فيها مسكن الزهراء زوجتي كسرت رتابة الصمت وقالت:
- لازم ننقل من البيت
حدقت فيها مستطلعا، فأوضحت:
- أصحاب البيت يبغونا ننقل...؟!
كانت متأخرات الإيجار قد تراكمت علينا.. دون أن نتمكن من القدرة على السداد... قالت:
- مو عشان الايجار.. امهم تبغى تسكن فيه.
قلت مستطلعاً:
- طيب والإيجار
قالت:
ننقل وبعدين نسدد على أقساط
قلت:
- والإيجار الجديد...؟!
قالت بحيرة:
- يتدبر.
كنت في حالة عجز تام.. بلا عمل.. وكل هموم الدنيا تراكمت على رأس زوجتي دفعة واحدة.
قالت بحذر.
- متى تطلع معايا ندور بيت
قلت بضيق:
- لا طالع ولا مدور... عندك ولدك...؟!
ارتج صفاء وجها بفعل ألم خفي شكها في خاصرتها... وهي تراني اتخلى عن دوري بزهد واستسلام.
ناورت قائلة:
- يمكن نلاقي بيت ما يعجبك....؟!
أشحت بيدي قائلا:
- أحط رأسي معاكم في أي مكان.
لم تكن ثمرة يانعة تلك التي سقطت ورجت ماء صدرها.... كانت يد قاسية تلوي أقوى أغصان شجرتها فتشظي وبدأ ينقصف. زمت شفتيها بحزم... جمعت أكواب الشاي من أمامي واتجهت للمطبخ....
ولابد انها تجاوز حجم ألمها... بعد أن أدركت حقيقة الخطر الذي يهدد العائلة.
مضت على يقين من ان إعلان عجزي بمثل ذلك الخنوع يناقض طبيعتي وتأكد لها ان أمر مرضي لا يقبل الجدل أو التخمين.
بدا لها انني كنت ماض في رحلة غريبة يطويني فيها ذبول وذهول.... يهيمن علي خدر وشرود... كأنما هي قوى خفية أكملت احتلال جسدي ومضت تدب فيه ببطء في محاولة للاستيلاء على أعصابي وعقلي.
وقفت بباب المطبخ. سألت:
- طيب... والكلاب....؟!
انفلت من قيود أسري وصرخت فيها:
- كلابنا معانا.....!!
لم تستطع إخفاء رغبتها في الخلاص منها وهي تقول:
- يمكن ما نلاقي بيت فيه حوش.
قلت بحزم:
- دوري حتى تلاقي
قالت مناورة:
- وإذا ما أحد قبل نسكن ومعانا كلاب
قلت منهياً الموضوع:
- بدون الكلاب ما ني ناقل...؟!
فاروق تلقى القرار بارتياح شديد.. خاصة أنه كان قد أحضر ل «تكيلا» كلباً آخر أطلق عليه اسم «ميكس» كلب أسود مهجن قبيح الوجه ثقيل الحركة... لا يستجيب للملاطفة.. شره للطعام.. سريع الغضب وشديد الغباء مما يجعل خطره غير محدود.. يعرف من الحيوانات «تكيلا» ولا يريد أن يعرف من البشر سوى أهل البيت...
يوم جاء به... كان يوماً عصيباً.. في مواجهة أمه التي ما أن رأت الكلب.. حتى أطلقت صرخة استنكار وخوف خاصة وهي ترى لونه الأسود، فالكلب كالقط الأسود ويعتبر فال شؤم وهي تعتقد أن كل منهما «جان» على هيئة حيوان..
خرجت على صوت الشجار والنباح وعندما رأيت «ميكس» و«تكيلا» يحوم حوله بينما هو لا يدرك شيئاً مما يدور... وجدت نفسي متعاطفاً معه دون حدود.
كانت زوجتي مصرة على إخراج الكلب وفاروق يسعى لاقناعها بعدم ضرر بقائه.. ولأنني أعرف نقاط ضعفها قلت:
- خليه مع «تكيلا» نكسب فيه أجر.
صرخت محتجة:
- أجر في الكلب... يعني انتو مصرين على طرد الملائكة من البيت.
قال فاروق معترضاً:
- بالله يا أمي... الله يخليكي
اتجهت إليه وصرخت بغضب:
- اسكت أنت ولا كلمة تعابطني كمان
التفتت إلي وسألت:
- أنت عاجبتك كثرة الكلاب
قال فاروق ضاحكاً:
- والله يا أمي... أحسن من أصحابه.
قلت بلا مبالاة:
- خليها... هي راحت وجات على الكلاب..!!
واصلت احتجاجها:
- والبيت والنجاسة كيف نعدي..؟!
قال فاروق مطلقاً الوعود:
- والله ما أخليها تقرب منك.
أصرت قائلة:
- وأنت تخليها تلوحس فيك وتدخل البيت بنجاستك
شرح وضحاً:
- يا أمي أنا فين وأنت فين
استدارت وأعلنت استسلامها بالقول:
- هيا خليك تلمسني ولا تدخل غرفتي.
في الليل علا نباحها وخرج فارق يتفقدها وينهرها. ما كاد يعود حتى عادت للنباح الذي امتد متقطعاً إلى أن شع نور الفجر.
أصبح نباح الكلاب وسيلة وحيدة لكسر حاجز الصمت...
لم يعد صوتها مزعحاً.. أدركنا بغتة أن صمتها إذا طال يثير قلقنا وريبتنا فيخرج أحد ما لتفقدها.
... كان نباحها يؤكد أن أحداً ما يحوم حول البيت.
٭ ٭ ٭ ٭
محلات صالة المطار كان مهمتها أخذ ما تبقى لديك من عملة سعودية فتبيعك كل شيء بما قد يصل إلى عشرة أضعاف ثمنه.
في الصف الذي انتظمنا فيه تمهيداً لصعود الطائرة... هاجمني الدوار وسرى في جسدي جيش الدبيب وتواصل طنين أذني بشكل لا يطاق.. أخذ شيء يتراقص في عيني.. كان ابني أمامي وخلفي يحوم حولي يكاد يسندني.
كنت أبتعد عنه رافضاً مساعدته.. دون أن أغامر بالتقدم لأكثر من خطوة واحدة.
كنت خائفاً من مظهر يوحي بالمرض. بدا أن قدرتي على التماسك كفيلة بمدي بطاقة قادرة على هزم هذا الجيش العنيف الذي يقصف جسدي من الداخل والخارج فبعد نحو عام من عدم مغادرة البيت إلا نادراً، متسمراً على مقعدي في الصالة بإضاءتها المحدودة وصمتها الذي لا يكسره سوى صوت التلفزيون القادم من غرفة الأولاد. ها أنا ذا داخل صالة المطار يصعقني هجوم الضوء والضوضاء... من كل هذه الحركة حولي.
أخذت مفاصلي تصرخ وهي تقاوم ما يقيدها وسلاسل شعرت بها تصل وترتخي على مضض وأنا مطبق شفتي على ما في بقسوة.. أسعى جاهداً لتذكر آيات القرآن الكريم بعد أن ضاقت علي أنفاسي وضاق علي ما حولي.
أخذت أتلو الآيات.. وانسحب مما أنا فيه متقدماً خطوة أثر أخرى باتجاه سلم الطائرة.
٭ ٭ ٭ ٭
كنت مسروقاً من نفسي.. عاجزاً عن إدراك حجم التحول الذي حل بي، فالتويت معه بمرونة شديدة غيرت مسار حياتي بسرعة غريبة أذهلت من معي فأخذ يرقبني بحيرة.. وأنا أحدق في الأشياء لا أراها... ماض لا أريد أن أدري إلى أين، بعد أن تساوت الجهات والاتجاهات. كاد السواد يكمل نشر خيمته على كل ألوان اللوحة في عيني ويقرض الضوء في داخلي بأفواه جيش من الفئران الجائعة الشرهة.
بدا أنني خارج مشهدي لا أراني فيه ولا أراه من خارجه ناسياً كل ماض وزاهداً فيما سيأتي.
لا أعبأ بحاضر لست فيه.
على المائدة. لم أكن أرى حجم ألم زوجتي وحيرة أبنائي... وهم يرونني جالساً بينهم لا تكاد يدي تمتد لشيء..... تساوت الأطعمة باختلاف ألوانها وأطعامها وروائحها.
أحدق فيما كنت أحب واشتهي فأراه بعيداً جداً بما يجعلني أزهد فيه... يدي لا تستطيع أن تصل إليه، فلا أملك من القوة أو الشهية ما يدفعني لبذل أي جهد قد يساعدني على الوصول إليه..
في أحيان كثيرة أغادر الأريكة لأجلس للطعام.. ثم قبل أن تمتد يدي إليه... يصيبني مرآة بحالة شبع غريب أشعر معه كأنني جئت لتوي من وليمة.. قدم فيها نفس الطعام... ولا أعود أريد شيئاً سوى أريكتي لأسترخي عليها واستريح مما أنا فيه من إعياء وتخمة.
استلقي هناك كأنما لأعود لججر الخمول والذبول والذهول رغم أنني غادرته قبل وهلة على مضض وقبل ذهاب زوجتي للنوم تحضر لي سندوتشات وتضعها إلى جوار رأسي.
في الصباح قبل أن تخرج للعمل تمر بالقرب من الأريكة التي أصبحت أنام عليها.. وكثيراً ما كانت تجد الطعام لم يمس.
تفكر قبل أن تدخل البيت يسبقها صوتها وهي تصب نقمتها على فاروق قائلة للكلاب:
- الله يلعن اللي جابك... أصله كلب زيك...؟!
عندما تصبح داخل البيت.. تكبت انفعالها خلف أنفاس عصبية لاهثة.. تتجه للصالة حيث أريكتي يتقدمها رأسها لترى الحال التي أنا عليها.
يزداد حذرها.. فتمر من أمامي باتجاه غرفتها.. أسمع حفيف ثوبها ولا أراها لأنني أكون مستلقياً بمواجهة الحائط أما إذا كنت جالساً.. فتسبقها ابتسامتها وتجلس مطلقة لهاثها وتقول:
- الكلاي يا أخي.. بس يبغوا يتلحوسوا فيه..؟!
تتلفت مستطلعة وتقول باستغراب:
- تركنا السيارة ما طلعت..؟!
لكثير ما ألقت علي السؤال الذي لا تجد له جواباً.. أخذت دهشتها تصبح مصطنعة.. تجاهد أن تخفي خلفها قلقها وريبتها الذي مضت تزداد يوماً إثر يوم فقد تأكد لها أن ما كنته قد مضى إلى غيررجعة..
كانت تعود من الخارج.. فيقلقها ألا تجدني.... لم يكن يخيفها شيء أكثر من وجودي خارج البيت ربما بفعل تأثير عادة استحكمت على مدى أكثر من عشرين عاماً عاشتها وهي تنتظر عودتي كل مساء.
كانت تبرر خوفها الشديد بالقول:
- كل أم تحب أولادها أكثر من زوجها.. إلا إذا اعتبرته واحداً منه.. ساعتها تتساوى محبتهم..؟!
ها هي ذي أصبحت تتمنى أن تعود ولا تجدني داخل البيت....
ملازماً لأريكتي كانت تريد أن تعود لسابق عهدا... تعود ولا تجدني.. تصاب بخيبة.. فتسقط العباءة تحت قدميها وقبل أن تبدأ رحلتها مع القلق... تسأل من تجده أمامها:
- فين أبوك يا واد..؟!
٭ ٭ ٭ ٭
ابنتي عبرت عن نفسها بطريقة أخرى.. كشأن اخوتها كنت أراها تمر من أمامي، كأنما هي على بعد آلاف الأميال يمرون في مواجهتي على شاشة تجعلهم هلاماً لا أصل إليه أو كأنهم لا يرونني.
جلست إلى جواري.. وضعت يدها على كتفي ابتسمت وقالت بعتب:
- فينك يا هو... من زمان ما شفناك...؟!
قالتها بطريقة توحي أنني كنت غائباً عن البيت... قلت ساهماً:
- أنت اللي فينك.. يوم في البيت وأيام عند خالتك.
ازداد عتبها وهي تقول:
- بابا حرام عليك.. صار لي شهر ما زرت أحد.. بس إنته اللي منته هنا.
قلت ضاحكاً:
- والله يا توتا.. ولا حتي هناك.
حاصرتني قائلة:
- لا هنا... ولا هناك... فينك أجل.
قلت بضيق:
- مانتي شايفتني مسمر على الكنبة.
قالت بعصبية:
- شايفة بس منته معانا.
قلت بحيرة:
- ولا مع نفسي والله.
قالت بمزيد من العصبية:
- يا بابا زمان ما جلست معانا.
أضافت بإغراء:
- قوم نطلع نتمشى على البحر.
قلت ساخراً:
- هو البحر موجود.. كنت أحسبه سافر ولا نقل.
جذبتني يدي من وهي تنهض قائلة:
- بالله يا شيخ.. عندي كلام كثير أبغى أقوله.
تملصت قائلاً بضيق:
- توتا...!! شوفي لك شغلة غيري أحسن لك؟!
قالت غاضبة:
- شايف يا بابا.. لما أقولك أتغيرت ما تصدق.
٭ ٭ ٭ ٭
بعد تزمل أحوال «ميكس» تأكد لنا أن هذا الكلب توقفت قدراته على الفهم والاستيعاب عند حدود الاستجابة لي ولفاروق وحتى يطيع بقية أفراد العائلة.. لابد تصدر له الأوامر من أحدنا.. اكتشفت أن بصره وعقله استوعبا على مضض أشكال من في البيت.... أما فيما يتعلق بتنفيذ الأوامر، فإن حدود إدراكه توقفت عند القدرة على تمييز نبرتي صوتينا.. في مختلف أحوالها إن أمراً أو لعباً أو غضباً.. لذا عقدت مع فاروق اتفاقاً سرياً على إحضار مدرب محترف لتعليمه وترويضه.... وأكد فاروق بشكل خص... على ضرورة زيادة شراسته وقدرته الهجومية.
كنا متفقين على حقيقة أكيدة وواضحة أن «ميكس» لن يصل مستوى فهمه وطاعته إلى حد منطقي. سواء تدرب أو بقي كما هو... واتفقنا على أن الذي يقع بين يديه لا أمل له سوى في الدفاع المدني... ولا بديل أمام جنود الدفاع المدني من إطلاق النار عليه وقتله لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
قلنا أن دور المدرب يمكن أن يجعله كلباً متحضراً أو قادراً على الفهم والاستيعاب.
عندما حضر المدرب الباكستاني.. لم يتمكن من دخول حوش المنزل اشترط لتدريبه وضع كمامة على فمه وأن يتم التدريب ثلاث مرات أسبوعياً وبحضور فاروق وإشرافه... ثم زادت جرعة الفترة إلى خمس مرات لأن عبقرية «ميكس» كانت كافية لجعله ينسى ما تعلمه في كل مرة ويتطلب الأمر بداية جديدة دائماً.
في أول الأمر لم تكن المعاناة خاصة بالمدرب بقدر ما كانت متعلقة بفاروق... حيث كان وضع الكمامة على رأس «ميكس» يتطلب نحو ساعة... ومع اقتراب نهاية المدة المتفق عليها للمدرب بدأ الكلب يستوعب فكرة وضع الكمامة على فمه على مضض.. ما كان يزعجه معرفته أن لجم فمه.. هدفه حماية المدرب من أنيابه.
استمر التدريب ثلاثة شهور... مع نهايتها دفعنا أجر المدرب.. ونحن على يقين من أن «ميكس» لم يتعلم شيئاً على الإطلاق... فعندما طلبنا من «الرفيق» إجراء اختبار نهائي.. أصر على أن يتم دون نزع الكمامة... ثم قال وهو يودعنا..
- هذا كلب حمار مافي فهم...؟!
٭ ٭ ٭ ٭
لم أدرك معاناة البحث عن منزل جديد.. ففي كل مساء كانوا يعودون بعد عقد اتفاق مبدئي مع صاحب سكن مناسب ثم لا يلبث أن يأتي اتصال ينقض الاتفاق.. مرة بحجة الكلاب.. ومرة بحجة الاصلاحات.. ومرات دون سبب محدد.
كان صاحب البيت الذي قدر لنا أن نسكنه بمواصفات غريبة ربما تكون الأولى من نوعها حيث قسمت مساحة البناء إلى قسمين في مبنى واحد من دورين.
الأول على شكل فيلا والآخر بمواصفات العمائرة تعددة الوحدات بمدخلين خارجيين متقاربين كان هناك حوش بدا مناسباً ل «تكيلا» و«ميكس» مما جعل زوجتي تقبل به.
أما من الداخل فإن له أربعة أبواب خارجية.. فمن داخل قسم العمارة يوجد بابان نافذان.. الأول من الدور الأرضي والآخر من الدور العلوي ومن داخل الحوش بابان آخران للصالون والآخر في مواجهة الدرج.
لم يكن من الصعب علي سد مدخلي العمارة.. وإن كان هذا لم يمنع وصول أصواتنا للجيران... الذين نسمع حركتهم وتكاد نشعر أنهم معنا دون أن يرى أحدنا الآخر.
بدت زوجتي سعيدة بوجود ما يشبه السوق حول المنزل... أصبحت قادرة على الحركة بحرية دون الاعتماد على أحد وشعر الأولاد بالارتياح لتحررهم من عبء الاحتياجات المنزلية.
ووجد «ميكس» مجموعة من الأشجار وأرض غير مبلطة يمكن أن الحفر فيها للجلوس بالمساحات والعمق الذي يريح مختلف حالات استلقائه.
أما أنا فوجدت موقعاً لأريكتي بجوار الدرج في مواجهة باب الخروج... ووجدت خططاً شبه احترافيه بانتظاري.. ولم يكن مطلوباً مني سوى أن استلقي هناك كأن لا شأن لي بي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.