كان العم غرم الله أحد الدهاة في قريته قبل أن تدركه المنية منذ عقود، وكان قد فقد بصره في طفولته ما ولد له بصيرة ناقدة وساخرة وحاضرة البديهة (إن الذكاء من العمى)، وعزم ذات ليلة على السهرة عند أحد جيرانه، فحمل في إحدى يديه فانوسا يعمل بالقاز، وفي الأخرى عصا يتوكأ عليها ويحدد بها موضع خطوه وله فيها مآرب أخرى، وفي منحنى ضيق صادفه شاب نزق: فسأله: «ليش تحمل الفانوس يا عم غرم الله وأنت أعمى»، فرد عليه «مخافة أن يصطدم بي عميان القلوب أمثالك يا ولدي»، وحدثني شيخي علي بن محمد العمير متعه الله بالصحة أن بشار بن برد الشاعر الأكمه لقي رجلا يسير في الطريق ويسأل عن بيت أحد سكان البصرة، فقال بشار له: سر في هذا الطريق، فإن صاحبك يقيم في آخره، قال الرجل: ألا ترشدني؟ قال بشار: ولكني أعمى، فهل تطلب الإرشاد من الأعمى؟ قال: أنا أمسك بيدك، وأنت تقودني ففعل بشار وأوصله مقصده وأنشد (أعمى يقود بصيرا لا أبا لكم، قد ضل من كانت العميان تهديه)، وفي قصة تدل على سرعة بديهة المكفوفين، يروى أن ضابطا عربيا برتبة فريق التقى في مناسبة اجتماعية بعالم كفيف ملهم، وكأنه اغتاظ من حذاقته ومهارته في التعبير برغم بساطته، فأراد ذلك الفريق أن ينال منه، فأسهب في حديث وعظي مملول واختتم بقول الله تعالى (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا)، ففهم الكفيف الإشارة وأوجز في العبارة وسلب ألباب الحضور بأناقة اللفظ ولباقة اللافظ واختتم بقوله تعالى (فريق في الجنة وفريق في السعير)، فكان أبلغ رد على من يستخف بقيمة الأشياء حوله ويظنها بسيطة دون أن يستكنه عمقها وأبعادها، بوركت جمعتكم.