يسخر أبو نواس من رجل اسمه (أبان) فيقول عنه: صحفت أمك إذ سمتك في المهد أبانا،، قد علمنا ما أرادت، لم ترد إلا أتانا والأتان هي أنثى الحمار، أما التصحيف فهو تغيير يحدث في شكل الكلمة، إما بتغيير مواضع نقط الحروف أو زيادتها أو نقصها مثل (ضيف) بدلا من (ضيق) أو بتغيير مواضع الحروف مثل (علم) بدلا من (عمل) أو تغيير الحروف نفسها مثل (قاهر) بدلا من (ساهر). وهذه التصحيفات كانت تحدث قديما إما عفوية بسبب استخدام الحبر السائل في الكتابة فيسيل الحبر أحيانا على بعض المواضع فيطمس الحروف أو النقط أو يتسبب في شبكها أو زيادتها. أو أنه يحدث بسبب جهل الناسخ بشكل الخط الذي ينقل عنه، فقديما كان شائعا تعدد أشكال الخطوط التي تكتب بها المخطوطات بحسب البلد الذي تصدر عنه فكان بعضها مكتوبا بالخط الفارسي وبعضها بالكوفي وبعضها بالرقعة أو النسخ وهكذا، ومتى كان الناسخ غير متقن قراءة الخط الذي ينقل عنه فإنه قد تشتبه عليه أشكال الحروف والكلمات فيقع في التصحيف. وأحيانا يحدث التصحيف بسبب السماع فتختلط الحروف على من يقوم بالتدوين فتصير كلمة (عثر) (عفر) و(عزم) (عزل)، و(شفاء) (شقاء) وهكذا، وكم من مرة فوجئت بكلمات غريبة ضمن إجابات الطالبات على أسئلة الاختبار لا تتسق مع المعنى العام للإجابة، ثم أكتشف أنهن كن يدون ما يسمعنه في المحاضرة فيخذلهن السمع أحيانا متسببا في تصحيفهن بعض الكلمات. لكن التصحيف ليس دائما عفويا، أحيانا يكون التصحيف مقصودا، كأن يشكل على الناسخ قراءة الكلمة أو فهم معناها فيعمد، اجتهادا منه، إلى إبدالها بكلمة أخرى يراها أنسب وأقرب إلى المعنى المراد، وهذا النوع من التصحيف يحدث بعض المرات لما أكتبه في عكاظ، مرة لغموض معنى الكلمة على المصحح اللغوي ومرة لمجرد أن ذوقه لم يستسغها، وصار أمرا معتادا أن أفاجأ بين ثنايا كلامي بقراءة مفردات دخيلة لم يلدها قلمي!! إلا أن أكثر من يواجه مشكلة التصحيف هم محققو المخطوطات والكتب القديمة، الذين كثيرا ما يجدون أمامهم عديدا من الكلمات المصحفة التي عليهم أن يحلوا غموضها، ومع ذلك فإن خطر التصحيف في المخطوطات يهون أمام خطر وقوعه في متن الأحاديث أو إسنادها، فالتصحيف فيها قد تبنى عليه تشريعات وأحكام فقهية ما أنزل الله بها من سلطان. من الروايات الطريفة التي تروى عن التصحيف في اللغة وصف أبي عبيدة لمستملى كان عنده اسمه كيسان يقول عنه: «العلم يمسخ على لسان كيسان أربع مرات: يسمع معنا غير ما نسمع، ويكتب في ألواحه خلاف ما يسمع، وينقل إلى الدفتر خلاف ما يكتبه في لوحه، ويقرأ من الدفتر خلاف ما فيه». وإذا كان كيسان بهذه الصفة فلك أن تتخيل أي معرفة يمكن أن تتحقق نقلا عنه !! أما (المستملى) فهي صفة أطلقت على الشخص الذي كان يقوم بدور مكبر الصوت في عصرنا هذا، فقد كانت بعض حلقات التعليم كبيرة لا يصل فيها صوت الشيخ إلى من هم في آخرها فيستعينون بمن يجلس وسط الحلقة ليسمع من الشيخ ثم يعيد ترديد ما سمعه بصوت عال يصل إلى من يجلس في آخرها.