في مذكرات غارسيا ماركيز (عشت لأروي) لا يستطيع القارئ أن يحدد كون هذا الكتاب مذكرات أم أنه رواية، أم هو مجرد ذكريات! فغابريل غارسيا ماركيز -أو غابيتو كما كان يدعى في صباه- لم يبتعد كثيرا في كتابه هذا عن أسلوبه في سرد رواياته المعروفة بكل تقنياتها العالية ولغتها البهية، وحين تركز ذهنك في الذكريات والأحداث التي يسردها ماركيز ترجح كونها مذكرات، ولكنك حين تفاجأ بالصياغة الرائعة لتلك الاحداث وتوصيف الشخصيات والتلاعب بالأزمنة تجد نفسك مجبرا لتنفي كون هذا المكتوب مجرد مذكرات، وإن كتبت كلمة «مذكرات» على غلاف الكتاب. بدا ماركيز وهو يسرد أحداث حياته في هذا الكتاب محلقا بعيدا في الفضاء كطائر يرى على الأرض كائنات وموجودات وأشجارا ومياها.. يتبين بعضها ويخفى بعضها الآخر، لكنه في كل الأحوال كان قادرا وبشكل مقنع وممتع على وصفها، إما من خلال واقعية تلك الأشياء، وإما من خلال رؤيته لها من علوه الذي جاوز السبعين من الاعوام حين أصدر تلك المذكرات، عبر إحساسه وشعوره المنطبع في ذاكرته اثناء مروره بتلك المراحل من حياته وحتى اليوم. يصدر ماركيز كتابه بجملة لعلها تختزل رؤيته للكون والحياة، حيث يقول في أول صفحة من الكتاب: «ليست الحياة ما يعيشه أحدنا، وإنما ما يتذكره، وكيف يتذكره ليرويه». لقد خلق هذا الرجل -كما يرى هو- ودب في هذه الحياة لعيش ويشاهد، ثم يختزل ويصور في ذاكرته الحكائية، ثم يتذكر بشكل مدروس ودقيق -وليس مجرد ذكريات ضبابية أو مموهة- ثم يحاول أن يروي، عاش ماركيز حياته من أجل الحكاية، فحياته كما يراها ويعيشها مفضية باتجاه الرواية والحكي، ونجده يؤكد هذا المبدأ مزهوا به ومطمئناً إليه، بل ويجد فيه متعته الحقيقية وربما متعته الوحيدة، وحين نعود الى كتاب حوارات ماركيز التي أعدها ميندوزانجده في حوار مع الناقد الألماني «فلوريان هويف» يجيب عن سؤال للأخير: لماذا تخاف من الموت؟ يجيب ماركيز: «إنني لا أخاف من الموت، لكن ما يثير قلقي هو مرحلة الانتقال بعد ذلك، أعرف هذا يسود الظلام التام، لكنني لن أحس بذلك، ما يقلقني هو أنني لن أعلم كيف ستسير الأمور من بعدي؟ هذا يحطم أعصابي، ثم إن الموت سيكون التجربة الوحيدة التي لن أتمكن من الكتابة عنها، إن أدبي يستفيد من كل تجاربي بطريقة أو بأخرى، لكن موتي، إنه الحدث الوحيد الذي لن أتمكن من كتابة قصة عنه، والموت سيكون أهم حدث وربما أجمل حدث والأكثر تسامياً بالنسبة لي، لكن ما من حيلة أنني لن أصفه وكذلك ما من أحد آخر سيصفه، هذه كارثة شخصية بالنسبة لي، وسيكون ذلك بمثابة الفشل الكبير الوحيد في حياتي ككاتب». الحياة لدى ماركيز حكاية، والحكاية حياة، تلازم ديالكتيكي مثير وثري، فحياته تتمدد وتتنوع، تغزر وتجف، تفيض وتنضب كي تصب في الختام بكل تقلباتها وأطوارها في نهر الحكاية الممتد من لحظة الولادة حتى ساعة الموت، «الموت» الذي سيهزم الفنان ساعتها (ولن يكون كموت محمود درويش الذي هزمته الفنون جميعها)! في كتاب ماركيز هذا يروي موقفا حدث له مع أحد اصدقائه الصحافيين -يدعى الفونسو فونيمايور- حين فتح الأخير باب حجرة المكتب على ماركيز قائلا له: وأنت أي لعنة تفعلها هنا في هذه الساعة؟ فأجاب ماركيز: إنني أكتب قصة حياتي. فقال ألفونسو: يبدو أن لك من الحيوات أكثر مما لقط! ونحن نتساءل مع فونيمايور عن كل هذه الحكايات والروايات التي سطرها ماركيز والقصص التي نشرها؛ هل كانت لحياة واحدة أم لعدة حيوات؟ ومن هو الشخص الذي عاش كل تلك الحيوات هل هو ماركيز واحد أم أكثر من ماركيز؟ وأية حكاية هي التي تمثل ماركيز (خريف البطريرك) أم (مائة عام من العزلة) أم (ساعة شؤم) التي نال عليها أول جائزة أدبية في حياته.. أعتقد أنه يمكننا القول إنها «أكثر من حكاية لأكثر من حياة»! تحدث ماركيز عن أشياء متنوعة وكثيرة جدا يبدو إجمالها أمرا في غاية الصعوبة، ولعل ذلك نابع من رؤية ماركيز لأحداث الحياة وأشيائها بعامة حين يقول ص 286 «إنه لا وجود لشيء في هذا العالم ولا في العالم الآخر إلا له فائدة للكاتب» من هنا لم يترك ماركيز تقريبا شيئا من تفاصيل حياته لم يتحدث عنه في مذكراته، أسرته، أمه وأبوه وقصة عشقهما.. ورغبة أبيه في كتابة الرواية، جده الكولونيل، نساء البيت، «ترينداد» أول فتاة فضت ختم جسده في الثالثة عشرة، معاناته من أشياء صغيرة.. كتنظيف أسنانه وخوفه من الظلام والتلفون، خطؤه الكبير في حياته ككاتب -كما يقول- بعدم تعلمه الإنجليزية، لقاؤه بالمثقفين والشعراء والصحافيين.. إلخ. في كل تلك التفصيلات الكبيرة أو الصغيرة التي تعرض لها ماركيز في سيرته تبدو الحكاية حاضرة، فغالب أحداث حياته تسهم في صنعه سارداً وروائياً، وهنا سؤال يطالعنا حين نقلب صفحات حياة ماركيز، هل كانت أحداث حياته كلها أو معظمها تؤدي حقيقة إلى صياغة شخصيته الحكائية والساردة؟ أم أن الكاتب السبعيني الآن والذاكرة الواعية للروائي الكبير هي التي تستدعي من أحداث حياته الأولية ما يدور في فلكها من مكونات بدائية للحكي؟ فهو يحكي لنا أحداثا ومصادفات مرت في حياته وكأنه تلقاها عنوة حتى يصبح روائياً! فمثلاً مما ذكر أن أول كتاب قرأه أو قرأ مقاطع منه كان كتاب «ألف ليلة وليلة»، كما يقول ماركيز إن باباليو كان يأخذه معه إلى صالة السينما لمشاهدة أي فيلم جديد، وفي اليوم التالي يطلب مني، أي منغابيتو، رواية الفيلم على المائدة ويصحح نسياني وأخطائي ويساعدني على بناء المقاطع الصعبة، وبعد أن أورد ماركيز هذه الحادثة يقول: «كانت تلك ومضات فن درامي أفادتني دون أدنى شك». إضافة إلى حكايات جدته عن الجن والأشباح وغير ذلك، هذه الأشياء كلها، هل كان ماركيز يستدعيها من ذاكرة انتقائية في مذكراته أم أنها كانت تسهم حقا في صياغة ذاتٍ وجدت وعاشت لا لشيء إلا لتروي... حتى تصبح شخصية تتسيد المشهد الروائي في العالم؟! الآن من سيكتب عن موت ماركيز؟ إن العالم أجمع يكتب عن رحيله هذه الأيام، لكن أحدا من أولئك الكتاب لن يستطيع رواية شيء عن تجربة ماركيز الفريدة مع الموت! وهذه التجربة هي الوحيدة التي هزمت جبروت السارد وكبرياء الروائي/ غارسيا ماركيز!