«طلبت مني أمي مرافقتها كي نبيع البيت. كانت قد وصلت الى بارانكويلا في ذلك الصباح نفسه آتية من القرية البعيدة حيث كانت العائلة تعيش، ولم تكن لديها أدنى فكرة عن الكيفية التي يمكنها العثور عليّ بها. لكنها اذ راحت تسأل عني معارفي هنا او هناك نصحها البعض بأن تقوم بجولة في مكتبة «موندو» او في المقاهي المجاورة، حيث أذهب مرتين خلال النهار لأتناقش مع زملائي من الكتّاب. غير ان ذاك الذي أعلمها بالأمر نبّهها: «...خذي حذرك... كلهم هناك مجانين ينبغي تقييدهم!». وصلت الى المكان عند منتصف النهار تماماً، وراحت «تتمخطر» بخطاها الخفيفة بين الطاولات المغطاة بالكتب، لتنتهي واقفة أمامي تماماً وراحت تنظر إليّ محدّقة في عينيّ وعلى ثغرها تلك الابتسامة الماكرة التي تلجأ اليها في أحسن أيامها. ثم قبل ان اتحرك قالت لي: «أنا امك...». ربما تكون هذه الفقرة التي يفتتح بها غابريال غارثيا ماركيز كتابه المعنون «نعيش لنرويها» أشهر فقرة في أيّ كتاب سيرة لأيّ من كتاب العالم في زمننا المعاصر. ذلك انها تشكّل الأساس الذي يبني عليه صاحب «مائة عام من العزلة» البنيان الكامل والمدهش لواحد من أجمل كتبه وأثراها. والحقيقة ان من يقرأ بعد ذلك الستمئة صفحة التي يتألف منها هذا الكتاب، لن يمكنه أبداً أن ينسى تلك الافتتاحية ليس فقط لأن ماركيز حدّد من خلالها أموراً كثيرة تتعلق بحكاية حياته «الحقيقية» التي تروى في تلك الصفحات، وكذلك اسلوبه في استعادة ذاكرته، بل كذلك لأن هذا الذي يعتبر أشهر كاتب في أزماننا المعاصرة اختصر في هذه الكلمات القليلة «كل» الحكاية: فهنا لدينا البيت والأم والابتعاد بينها وابنها الباحث عن مستقبله. ولدينا البدايات الأدبية والاستقلالية لكاتب يعرف كيف يبقي شبح أمه – اي شبح طفولته وماضيه - حياً في وجوده. ومهما يكن من أمر، فإن ما لا بد من الإشارة اليه منذ البداية هنا هو ان هذا الكتاب لا يغطي سوى الثلث الأول من سيرة ماركيز الذاتية، اي فقط السنوات التي لم يكن ماركيز قد اصبح فيها ذلك الكاتب الكبير الذي نعرف. فالكتاب في نهاية الأمر لا يغطي سوى السنوات الفاصلة بين ولادة «غابو» عام 1927 وعام 1955 الذي انطلق فيه الى العالم باحثاً لنفسه عن مكان في عالمي الأدب والصحافة. وحين اصدر كاتبنا هذا النص كان يخطط لإتباعه بجزءين آخرين يكملان سيرته. وفي الحقيقة ليس ثمة حتى اليوم – اي بعد عشرة اعوام تقريباً على صدور الجزء الأول – ما يشير بالتأكيد الى ان ماركيز كتب صفحات أُخر. بل نكاد نقول انه وقد تجاوز الثمانين من عمره يبدو ميالاً للاكتفاء بتلك السيرة الرائعة التي صدرت قبل اعوام قليلة بعنوان «غابريال غارسيا ماركيز: حياة» من كتابة الإنكليزي جيرالد مارتين ويبدو ماركيز راضياً كل الرضا عنها. ومهما يكن من أمر هنا من المؤكد ان ثمة فوارق كبيرة بين النصّين وكذلك بينهما وبين عشرات الكتب التي صدرت لتتحدث عن حياة ماركيز... اذ ان النصّ الذي كتبه هذا الأخير بالكاد يمكن اعتباره سيرة ذاتية حقيقية حتى ولو كان التشابه والتطابق بين ما يروى من هذه السيرة في كل هذه الكتب امراً لا لبس فيه. ذلك ان ماركيز بقدر ما دوّن بقلمه هنا «أحداث» حياته، استعاد في الوقت نفسه سيرة شخصيات كتبه، ليس كجزء من نصوصه التي لم تكن قد ولدت بعد عندما اقفل ماركيز هذا الجزء، بل كجزء من سيرته نفسها. ومن المؤكد ان هذا امر لا يمكن ان يدركه إلا القراء الذين تآلفوا على مدى سنوات طويلة مع كتب لماركيز تحمل العناوين الشهيرة الآن، من «ليس للكولونيل من يكاتبه» او «مائة عام من العزلة» الى «الحب في زمن الكوليرا» ناهيك بعشرات القصص القصيرة. ولا شك في ان هذا يكاد يكون امتع ما في «نعيش لنرويها»، حتى وإن كانت مئات الدراسات التي أرّخت للأدب الماركيزي وحللته توصلت دائماً الى الاستنتاج أن ادب ماركيز مرتبط جذرياً بحياته وبالناس الذين عايشهم او سمع بهم خلال تلك الحياة او بالأماكن التي عاش فيها وما الى ذلك. ولكن أن تقرأ عن هذا كله في دراسات علمية محكمة شيء وأن تقرأه من خلال كتابة ماركيز سيرته كجزء من هذه السيرة شيء آخر تماماً. بخاصة اذا كان الكاتب لا يتوقف هنا او هناك ليشرح كيف استقى هذه الشخصية او تلك في رواية من الروايات من فلان او غيره كان له دور او وجود او حتى مجرد عبور ما في هذه اللحظة او تلك من حياته. وفي هذا يبدو واضحاً ان ماركيز يعتبر العلاقة بين ما عاشه وما كتبه أمراً بديهياً لا يحتاج الى شرح وتفسير. انه فقط يزور تاريخه في جولة هي في الوقت نفسه جولة في ادبه. وعلى هذا النحو لن يفوت قارئ هذه السيرة الذاتية ان يشعر وكأنه خلال القراءة يبدو كمن يزور متحفاً لتاريخ ما. ولنبادر هنا الى القول ان هذا الشعور إذ ينتاب القارئ لن يعود معه هذا القارئ مجبراً على التمييز بين ما هو حقيقي في سيرة الكاتب، وما هو من صنع خياله. ومن هنا سيكون من المنطق ان نلاحظ كيف ان ماركيز إذ يروي أحداث الثلث الأول من حياته - وبالتالي أكثر من ثلث قرن من تاريخ وطنه كولومبيا - نادراً ما يذكر تاريخاً محدداً، اللهم الا إذا كان تاريخاً مرتبطاً بحدث ما كأن يكتب مثلاً ذات فقرة: «... بعد ذلك بسبعة عشر عاماً، اي يوم 19 كانون الثاني (يناير)1961، وسيكون هذا التاريخ علامة اساسية حزينة في حياتي، هاتفني صديق من المكسيك ليقول لي ان المركب البخاري النهري دافيد آرانغو قد احترق في مرفأ «ماغانغي» ولم تبق منه سوى كتلة من الرماد». ان ماركيز يحدّد التاريخ هنا فقط لكي يحدد علاقة ذلك الحدث بانهيار عالم كامل بالنسبة اليه يرتبط بالمركب والنهر الذي كان يشكل جزءاً من عالم طفولته وصباه... تماماً كحاله مع امه التي افتتح الكتاب على مشهد عثورها عليه في بارانكويلا، وكما حاله مع البيت الذي سنجده جزءاً اساسياً من عالم رواياته... ناهيك بعلاقته بمئات التفاصيل الصغيرة. صحيح هنا ان التاريخ الذي يحدده ماركيز لاحتراق المركب يأتي بعد ست سنوات من خاتمة الكتاب، لكنه وجد ذلك التحديد ضرورياً ليس من اجل الدقة التاريخية بل من اجل التعبير عن الاختتام المتدرج لتلك الفصول من طفولته وشبابه، حيث راحت كل التفاصيل الصغيرة تتحول اما الى ذكريات مجردة او الى فقرات في رواياته. ومن الواضح ان لهذا كله ارتباطاً بالجملة التي يوردها ماركيز في مستهل «نعيش لنرويها» ويقول فيها: ليست الحياة ما نعيشه وإنما هي ما نتذكره والكيفية التي بها نتذكره. أولسنا هنا، بكلمات أخرى، أمام ذلك القول الذي نقله زميل ماركيز، الكاتب الأرجنتيني الكبير خورخي لويس بورخيس، عن لوتريامون: ان كل شيء في هذا الوجود يبدو وكأنه وجد لينتهي أمره داخل كتاب؟ بالتأكيد. وربما لتعزيز هذه الفكرة في ارتباطها بجوهر اسلوب ماركيز في حكي حياته نذكر هذه الحكاية: ذات مرة التقت سيدة بماركيز وكانت قد انتهت لتوّها من قراءة روايته «مائة عام من العزلة» يومها ما ان اسبغت السيدة على الكاتب كل آيات الإعجاب سألته مع شيء من الاستنكار عما إذا كان منطقياً وصحيحاً ان ريميديوس (احدى شخصيات الرواية) يمكنها ان تطير فوق البيت... على الفور نظر اليها ماركيز بدهشة ممزوجة بمكره المعتاد وسألها: اين رأيت هذا المشهد يا سيدتي؟ فقالت له: في روايتك! فصمت قليلاً ثم تمتم قائلاً: اذاً لا شك في انه منطقي طالما انك رأيته في الرواية! والحال ان قراءة روايات ماركيز على ضوء سيرته الذاتية هذه ستضعنا امام هذه الحقيقة: طالما ان كل شيء موجود في الكتاب فهو بالتالي حقيقي... وعلى ضوء هذا التأكيد «البديهي»، يصبح منطقياً ان نخلص الى ان ادب ماركيز كله لا يعود بالتالي سوى سيرة ذاتية له وإن تحت اقنعة وأسماء مخترعة... وتصبح احلام الكاتب والغرائبية التي يخوض الكتابة عنها والواقعية «السحرية» التي تطبع عمله ككل، يصبح هذا كله حياة بأسرها. وما هذا من لدن كاتب مدهش كماركيز، سوى درس انساني ادبي يوازي دروس الحياة كلها. ولعل اهميته تكبر إن نحن تذكرنا ان ماركيز لم يشرع في وضع هذا الكتاب/الوصية الا بعدما اكتشف الأطباء انه مصاب بسرطان صعب وانه لا محالة سيموت بعد حين! كان ذلك في عام 2000. من فوره يومها كتب ماركيز هذا الجزء من سيرته معتقداً ان «موته الحتمي» لن يمكنه من قراءته منشوراً... غير انه بقي حياً من بعد صدوره ولا يزال. فهل سيمهله الموت سنوات اخرى يستكمل فيها الجزءين الباقيين الموعودين من «نعيش لنرويها»؟ [email protected]