"لا شيء يشبه الإنسان مثل طريقة موته" - ماركيز- ربما كانت تلك العبارة مدخلا لإغراقك في موتك والبشر من حولك، أكثر من حياتهم وحياتك. الموت اليوم الذي أصبح خبزنا اليومي أكثر من أي وقت مضى في التاريخ، لا أعني في حدوثه، بل من خلال حجمه، ومعرفة الآخرين به. فأدوات القتل تطورت بشكل مهول، وأدوات نقل تلك الأخبار صارت تلاحقنا لا نلاحقها. لكن ذلك التطور السريع في التواصل جعلنا نعرف أن هناك روائيا عظيما يسمى غابريال غارسيا ماركيز، وترجمت أعماله سريعا، ولاقى رواجا سريعا بيننا. عند قراءة قصص وروايات الحكاء الكولومبي العظيم ماركيز، تجدها متخمة برائحة الموت. هذا السؤال الذي أثقل كاهل ماركيز في بداياته الكتابية – هل تخلص منه يوما؟! – حتى تجلت عظمة حديثة عن الموت في روايته الغريبة نصا وفكرة، وأعني "قصة موت معلن" حيث كتب رواية ذكر سلفا نهايتها، فهي قصة موت معلن، تتحدث عن تهديدات بالموت توجه لأحدهم، ثم تنفذ، والكل يعلم – لذا كان الموت معلنا – ولكن لا أحد فكر في إيقاف ما يحدث.. لا أحد يعطي للموت الجدية التي يستحقها! أهمية الموت التي لا حدود لها.. الموت أكثر من نهاية، يقول ماركيز "لا ينتسب الإنسان إلى أرض لا موتى له تحت ترابها" الموت الذي انحل في النهاية إلى أكثر من بوابة لعالم اخر، أو نهاية، فأصبح انتماء أصيلا للأرض، وللبشر. أصيب ماركيز بالزهايمر، ذلك الذي عاش ليروي كما يفضل أحد الأصدقاء ترجمة عنوان سيرته ب "نجوت لأروي" ..لكنه لم ينجو بما يكفي، فذاكرته تفلت منه، وتتركه وحيدا، يواجه ما تبقى له من عمر، بلا ذاكرة، بعد خمس وثمانين سنة من الوجود النزق، وأكثر من ستة عقود من الكتابة المثيرة الفارهة. ماذا يعني أن يفقد ماركيز جزءا من ذاكرته ؟ وهو يصف أحد أبطال رواياته ب "كان ما يزال شابا لا يعرف أن ذاكرة القلب تمحو كل الذكريات السيئة وتضخم الذكريات الطيبة، وإننا بفضل هذه الخدعة نتمكن من تحمل الماضي" أي ماض تبقى يا ماركيز في الذاكرة ؟ أي ذكرى من غانياتك الحزينات تحمل؟ وأي عزلة تعيش ؟.. الذاكرة تتفلت منك، وتعيش ما تبقى من عمرك أعزل. يقول ماركيز: "لا يهم في الحياة ما حدث لك، لكن ما تتذكره، وكيف تفعل". إذا لم يتبقّ لماركيز ما يهم في الحياة، وهو الذي ما عاد يتذكر، لا يتذكر أي شيء، حتى سخريته الطريفة من الرئيس الأمريكي بيل كلنتون عندما زار كولمبيا في التسعينيات وكان ضمن برنامجه زيارة لماركيز، والذي علق بعد اللقاء بقوله "كان كلنتون ينتظر من فمي أن ينطق بالدرر" ساخرا من لهفة الرئيس الأمريكي للقائه، وحماسته في تلقي كلماته. هل يذكر ماركيز اللكمة الأشهر في حياته؟ تلك التي تلقاها سنة 1976م من صديقه الحميم الروائي ماريو فرغاس يوسا والتي فرقت بينهما لثلاثة عقود؟!.. على الأرجح أنه لا يذكر، ولا يذكر حتى جائزة نوبل التي حصل عليها سنة 1982م. لكنه ربما سيقرأ عن حياته. وهنا بعد الخرف، تبقى رؤية ماركيز صالحة، في زمن الزهايمر، حين قال "ليس هناك ما هو أخطر من الذكريات المدونة" تلك الذكريات التي لا يمحوها أي شيء، حتى الشيخوخه. سيبقى ماركيز من أبرز روائيي القرن الماضي عالميا، وأبرزهم على الإطلاق في أمريكا الجنوبية، لكن بعد أحاديث الموت، والذاكرة، يبقى ما يؤلم فعلا، كما يقول هو: " ما يؤلمني في الموت هو ألا أموت حبا" ماركيز لن يموت حبا بعد ما يزيد على ثمانية عقود من الحياة، بل سيموت فاقدا لملكة التذكر!. لتكون روايته الأثيرة، تلك التي لم تنتهِ بعد، تلك التي يقول عنها : "الكاتب لا يُنهي روايته أبدا، لكنه يتخلى عنها". هل تخلى ماركيز عن روايته ؟ أم هجرته بعد أن بات ينساها ؟. بدر الراشد