نقض المسلمات ومناقشتها وتحديد الموقف منها ضرورة. فإما أن تصمد المسلمات أو تنهار أمام البحث والمعرفة. فالاعتقاد أن الإسلام ضد الحداثة قول يحتاج إلى تمحيص، يحتاج للبحث في أسس الحداثة قبل تصدير الأحكام. وضرورة هذا الأمر تنبع من مشكلة الخصومة القائمة بين تجليات الحياة المدنية من ناحية، وتصور رفض الإسلام المطلق لكل فكر مختلف. بعيدا عن تفسيرات الحداثة المختلفة، فإن هناك ركائز من الضرورة بمكان، أهمها الموقف من العقل، فإذا كانت الحداثة تتماهى مع العقل إلى أبعد مدى، فإن الإسلام قد قنن العلاقة بين العقل والشريعة في منطقة لا تلغي العقل، ولكن في سياق من الضوابط الموضوعية. فالعقل وجود أصيل من حيث هو فاعل للتأويل، ومن حيث هو قادر على الاستنتاج، ومن حيث هو طامح للجدل في مسائل الوجود والمطلقات. للعقل مركزية استثنائية في القرآن، وهي مركزية وجودية يترتب عليها الوصول للحقيقة عبر النظر، لا عبر التسليم. فالجدل في القرآن مشروع للعقل، وليس للإقناع الزائف. إذ لا أصالة للإيمان دون العقل. وعليه، لا تعارض كما يتخيل الواهمون بين العقل والإيمان. لأن العقل السليم سيصل للحقيقة كما يقول ابن رشد الذي يرى أن لا تعارض بين العقل والشريعة. في الفكر الإسلامي نشأت مدرستان، مدرسة الرأي، ومدرسة النقل. مدرسة الرأي قالت بالاجتهاد العقلي، سواء ما كان فيه نص أو ما ليس فيه نص، من منطلق مبدأ التأويل، ومثل هذا الاتجاه العقلي المعتزلة أصحاب مدرسة الرأي. وبينما الاتجاه النقلي كان من نصيب مدرسة الحديث بشكل خاص. والاختلاف في الأصل بين المشروعين حول مساحة تحرك العقل. فليست الخصومة حول أهمية النص من عدمه. فكلاهما ينطلق من النص، لكن أهل الرأي يذهبون بالنص بعيدا عن القراءة الظاهرة، بينما أهل الحديث يتشبثون بظاهر المعنى. مشكلة القراءة مشكلة عقلية بحتة، أقصد القراءة بمعناها الواسع قراءة السياقات وقراءة الثقافات المقارنة. ورغم أن منطلق أهل الرأي من وراء قراءاتهم التأويلية هو تنزيه الله سبحانه وتعالى، فإن حرص أهل الحديث بالتسليم بالقراءة الظاهرة هو رغبة في عدم حرف القراءة عن معناه الظاهر وترك مختلف القراءة جانبا من أجل عدم المساس بالذات الإلهية. الفريقان اجتهدا، واختلافا، وكان الأمر طبيعا حتى دخلت السياسة فنقلت الصراع من مستواه الفكري إلى مستوى إشكالي بحت. عندما انحاز المأمون لقول المعتزلة بخلق القرآن، تحول الجدل الفكري إلى صدام، وغاب العقل، واشتعلت العاطفة، غاب الفكر وحضرت العاطفة للأسف إلى يومنا هذا. وهذا أحد أسباب مناهضتنا لكل مشروع عقلاني. جدد مشروع النهضة العربية في القرن التاسع عشر الميلادي الصراع حول العقل. وقد كان العالم العربي يعيش أسوأ حالات الانهيار الفكري. فبعد اتصال العرب بالغرب عن طريق حملة نابليون على مصر، وعن طريق البعوث الدراسية للغرب وخاصة فرنسا، ظهرت أسئلة العقل العربي. ولعل أهم سؤال طرحه مفكرو تلك الحقبة، هو: لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟ ولم يطل اكتشاف الجواب، إذ كان تجميد حركة العقل أحد أهم المعوقات بالنسبة للعرب، والاتكاء المطلق على النقل دون تمحيص للمنقولات وتحديد ملاءمتها للعصر. أدرك الجميع أن المشكلة ليست في النص الديني الصريح، بل في جمود المعنى وحرمان العقل من السؤال. والنتيجة تراث من المنقولات التي تداخلت واضطربت وشكلت غمامة حجبت رؤية مستقبل الأمة. منذ تلك اللحظة اشتبك فريقان، فريق النقل الذي يرى في إبقاء التراث كما هو ساكنا مطمئنا، حماية من التحولات والتبعية. وفريق عقلاني يرى ضرورة أخذ الأدوات المنهجية من الغرب لقراءة التراث وتمحيصه. واندفع هذا الفريق العقلاني في تقريب الحداثة العقلية من خلال إظهار تجليات الحداثة في الفكر والآداب والفنون على نحو خاص. نشط فن الرواية والمسرح، واستقبلت المجتمعات السينما. ورآها الناس مظاهر حياة، وأرادها أصحابها ظواهر لتجليات الحداثة. ارتبكت الذهنية المحافظة، ولم تجد تفسيرا لإقبال الجماهير الذين كان الظن أنهم خرجوا من تربية محافظة تأنف قبول المختلف. ظهرت الأسئلة، ولكن لم تظهر إجابات شجاعة. قبلت المجتمعات العربية تجليات الحداثة التي صنعها العقل الغربي، ومنها تجليات الصناعات التقنية، ولم تقبل حركة العقل، فما زالت الهيمنة للذهنية الناقلة هي السائدة. لقد باءت محاولات نفر من الأكاديميين في بعض الجامعات العربية لتقديم قراءات منهجية عقلية لتمحيص التراث بانتكاسات متوالية. إذ أن الغلبة دائما للتسليم بالمألوف دون أسئلة، ورتبت الكثير من المناهج في الجامعات العربية على القبول دون أسئلة. تحييد العقل في رحلة البحث عن معنى إحدى أهم مشكلات الواقع العربي. وشروط النهضة ليست دائما مادية صرفة، فلا بد للنهوض من تحرير العقل من تبعية الأفكار الجاهزة بما يسمح باستشراف ما هو أبعد في فهم هذا الوجود الكبير.