الحوار الفكري يفتح آفاقه المتعددة باتجاه الإثراء والتعدد، ويأتي الحوار الفكري بين المذاهب كضرورة ملحة اليوم أكثر من أي وقت مضى، وقد واجه العقل العربي ولعقود طويلة مأساته الإنسانية من المفاهيم الخاصة للخطاب الديني المتشدد في عصور فائتة في التاريخ الإسلامي، وقد حملت العديد من المصادر حكايات مروعة عن مقتل غيلان الدمشقي في العصر الأموي، ومنذ ذلك الحين والعقل العربي العقلاني يواجه إشكالية التفكير وإنتاج المعرفة المضيئة. واستطاع ذلك الفكر المتشدد إبان فترات سابقة تكوين مساحات شاسعة من الحجب، التي كان من شأنها تعطيل قدرات العقل وإجهاض مشروع البحث والمراجعات والنقد والتحليل، في ظل غياب الحوار الفكري، كما أن ذلك الفكر بإعلائه للنصوص الثانوية في التراث الإسلامي أسهم في تكبيل أبواب الاجتهاد، ذلك الاجتهاد الذي كان من شأنه أنه ينتج معارف جديدة وحية ومتفاعلة، وذهب العديد من الباحثين والمفكرين المعاصرين إلى مثل هذه النتائج، مثل: محمد أركون، محمد عابد الجابري، عبدالستار الراوي، نصر أبو زيد، ويحيى هويدي، وغيرهم من الباحثين. إن كل نقد كان يوجه للخطاب الديني كان يفهم على نطاقات واسعة بأنه نقد للدين، وهذا ما يحدث الالتباس والجدل والشك وإلقاء التهم التي ربما تصل إلى حدود التفكير. يقول العالم المعتزلي الشهير الجاحظ: «الحرية بالنسبة للعقل كالنور بالنسبة للعين»، وهو هنا يقرر أن حيوية العقل الإنساني في إنتاج المعرفة والاكتشاف لا تكون إلا وفق حوار خلاق وحرية مضيئة، فبهما يستطيع أن يتحرك ويبحث ويقفز ويراجع الخطاب ويتداخل معه ويختلف ويمحو ويكتب وينتج ويستنتج، إنها النور الذي يبدد العتمات، ولا يمكن لأي فكر إنساني أو تجربة معرفية جديدة أو حركة فكرية خلاقة أن تنشأ وتتشكل أو تنمو وتزدهر في طقوس تعادي الحوار، وتعادي الحرية. لقد جاءت كتب التراث لتنقل لنا أن مفردات (النطع والسيف) كانت هي الخيار القسري الذي طرح في مواقف متعددة بديلا للحوار وللحجاج والبرهان والبحث والعلم، إن الأصوات العقلانية التي كانت تطالب ببعث وإحياء (علم الكلام) من جديد في جسد ثقافتنا العربية والإسلامية، كانت تدرك مدى أهمية الحركة الاعتزالية، بمنهجيتها العريضة التي تتجه للعقل وللإنسان وللحياة ودورها في إعمال العقل وإنتاج المعرفة ومراجعة الخطاب مراجعة علمية عقلية حضارية، بوصفها حركة فكرية كاشفة خرجت من داخل التراث الإسلامي. يقول الباحث الدكتور عبدالستار الراوي عن تلك الحركة الفكرية: «لم تكن ظلامية ولا غيبية، بل كانت واقعية عقلانية، تعبيرا عن الإسلام الحضاري». إن إحياء علم الكلام إحياء لحركة البحث العلمي من داخل التراث الإسلامي لا من خارجه، وقراءة هذا التراث قراءة جديدة متطلعة للحاضر والمستقبل. والاعتزالية كحركة فكرية جاءت من أعماق التراث، بوصفها ثورة ثقافية حية متفاعلة مع العقل، مستندة للحجاج بالأدلة العقلية والعلمية، وثمة من يرى أن المعتزلة وعلماء الكلام ورموز الفكر الاعتزالي والنظرية الاعتزالية لم يوفقوا جيدا في عرض مشروعهم الفكري العقلاني الجديد في المجتمع الإسلامي آنذاك وذلك لغياب الحوار، إذ واجهوا آراء متباينة حول أصولهم الخمسة، على رغم أنهم أهل توحيد وعدل وأهل عقل كذلك. إننا بحاجة اليوم لإعادة قراءة التراث الديني الزاخر من جديد. [email protected]