كيف تفاعل الرسامون والتشكيليون مع رواية الدون كيخوتي وكيف تمثلوها فنيا؟ لم تتوقف قط رواية الدونكيشوت عن استخلاق الأساطير. فهي على مر التاريخ ساهمت في تأجيج المتخيل الفني والأدبي بتمثلات إبداعية فريدة أغنت الخيال الإنساني المتمحور أساسا حول الصراع الأبدي بين الخير والشر. الأدب الإسباني كباقي آداب الحضارات الأخرى التي أنشأت أساطيرها الشعبية. أوجد لنا الدون كيشوت نموذجا عن المثالية. وعلى الرغم من بساطة حبكتها الظاهرية، فهي تفيض بتجليات الصراع بين الخير والشر الموجود طبعا في كل الحضارات، كما نجد فيضا من التناقضات بين الواقعية والمثالية، والبراغماتية والطوباوية، التي لا تزال تتكرر تجلياتها باستمرار في حياتنا كل يوم. لقد كان الفارس النبيل الدون كيشوت دي لامانشا يجسد جوهر الصراع بين المثالية الحالمة بالخير والواقعية الصادمة بالشر. من جهة لدينا استقرار رصين ومتجذر على أرض الواقع. ويمثله سانشو بانثا. تعاقب عدد من الفنانين على تأويل رواية الدون كيخوتي بصريا، فكانوا لا يهتمون بالصورة الأدبية، بل بالاحتمالات التشكيلية والأيقونية التي تمنحها رواية سيرفانتيس. ولم يتوقف الأمر عند الترجمة التشكيلية للنص الأدبي بل في انتقل إلى رهان إدراك شمولي للكيفية التي يتمكن الفنانون بواسطتها من الانسلال داخل الأفكار الشعبية لمجتمعهم. منذ صدور رواية الدون كيخوتي عام 1605 تحت عنوان: العبقري النبيل دون كيخوطي دي لا مانشا وهي تتمتع بجاذبية سحرية لدى الرسامين الذين وجدوا في المتخيل الخرافي للرواية معينا خصبا لإطلاق رسوماتهم الساخرة وبطريقة كاريكاتورية تستجيب لذوق المتلقي آنذاك. هذا الأخير استقبل الرواية كحكاية ترفيهية مليئة بالنكات والمواقف المضحكة. لم تؤخذ الرواية بجدية ولم تقرأ بعمق. لم تقدم كنقد للمجتمع السياسي والاقتصادي ولا مديحا للفروسية النبيلة. ومنذ ذلك العهد عرفت الرواية شهرة واسعة امتدت إلى أوروبا، وترجمت إلى الإنجليزية عام 1612 بواسطة توماس شيلتون. وسلك كذلك الفرنسيون قاموا بترجمتها عام 1614 بفضل سيزار أودين، أما الإيطاليون فترجموها عام 1622، والألمان عام 1648، والهولنديون عام 1657، وكانت تلك الإصدارات مرفقة برسومات توضيحية. الفرنسي أنطوان جوهانوت 1803 1852 يعتبر الفنان أنطوان جوهانوت أحد أشهرالرسامين المهتمين بتحويل النصوص الأدبية إلى رسومات. واقترن اسمه بأعمال أدبية كبيرة كأعمال بلزاك عموما وروايته الكوميديا الإنسانية خصوصا لأن رسوماتها كانت متقنة وعالية الأناقة والدقة، فإن الناشرين كانوا يرشحون أنطوان لتصوير أعمال أخرى مثل الدون كيخوتي الانجيل ومسرحيات موليير وجان جاك روسو وولتر سكوت واللورد بيرون وغوته وشتوبريان ولامارتين وفكتور هيغو.. الفرنسي غوستاف دوريه 1832 1883 رسام ونحات. اكتسب شهرة كبيرة في عصره. في سنة 1854 اعتمده الناشر جوزيف بري لتطعيم أعمال رابليه برسومات تعبيرية. وبين 1861 و1868 أعد مجموعة من الرسومات سترافق الطبعة الفرنسية لكوميديا دانتي. بلغ عدد الكتب التي زودها برسوماته حوالي مائة وعشرين كتابا نشرت في إنكلترا وألمانيا وروسيا . وهو عدد مدهش، لم يصل إليه أي رسام آخر. كما اشتهر دوريه بالرسومات الفريدة التي رافقت نسخة الدون كيخوتي سنة 1863. تستعرض الرواية قصة ألونسو كيخانو الذي سينطلق في مغامرة وهو في الخمسين من العمر. ينتمي إلى طبقة النبلاء بقرية في إقليم لامانشا، كان مهووسا بقراءة كتب الفروسية وبطولاتها مؤمنا بكل كلمة من هذه الكتب المغرقة في الخيال والأساطير. بيير غوستاف ستال 1817 1882 رسام فرنسي اهتم بدوره بإعداد رسومات لعدد من المصنفات الأدبية على رأسها رواية الدون كيخوتي وكوميديا دانتي وأعمال بلزاك وكتاب غرائب باريس لأوجين سيو والكثير من قصص الأطفال. أنطونيو كارنيسيرو مانيسيو 1748 1814 رسام ونحات إسباني انطباعي ذائع الصيت، أتقن بحرفية هائلة رسم البورتريهات واقترن اسمه ببلاط الملكة غودوي 1796. كما عرف أيضا بترجمة رواية الدون كيخوتي إلى رسومات رافقت نسخة إسبانية فريدة من نوعها توجد اليوم لوحاته بمتحف برادو. ورغم شهرة الفنانين المذكورين، فإن الأكثر شهرة ممن تناولوا رواية الدون كيخوتي باعتبارها سندا موضوعاتيا وأفقا جماليا وشكلت في ذات الوقت مشروعا فنيا متكاملا طموحا أسفر عن أعمال فنية تنافس القامة الأدبية الرفيعة لرواية سرفانتيس. وأخص منهم بالذكر: الفنان الفرنسي هو نوري دوميي 1808 1879، ويعتبر اليوم من أعظم رسامي القرن التاسع عشر. لوحاته الآن ذات قيمة رفيعة تتصدر معروضات المتاحف العالمية. عرف هذا الرسام أيضا بمواقفه السياسية، فرسوماته المستفزة التي تسببت له في السجن لستة أشهر كاملة بسبب انتقاده للطبقة البورجوازية الفرنسية. عشق دوميي رواية سرفانتيس التي رافقته في المرحلة الأخيرة من حياته. في هذه المرحلة سيترجم دوميي حياة الدون كيخوتي ومغامراته إلى لوحات مستقلة. وتعتبر هذه الخطوة هي الأولى من نوعها التي يخرج فيها النص الأدبي إلى المعارض الفنية. كان دوميي حداثيا في تصوراته التشكيلية. قال الشاعر شارل بودلير عنه أنه كان "واحدا من أهم الفنانين، لا أقول فقط في الكاريكاتير، ولكن أيضا في الفن الحديث" . ووجد الدونكيشوت اهتماما عميقا من طرف رواد التجربة السوريالية، في مقدمتهم بابلو بيكاسو وسلفادور دالي.. بعد سنوات من الإبداع والانضباط والاعتكاف على نص أدبي اتخذه الفنان بشغف كسند لاختراق عجائبية الدون كيخوتي. انبثق أخيرا كرنفالا من الألوان والقوة والسحر. رسومات غاروست لا تفسر شيئا لكنها تقول كل شيء. فهي تمنح المتلقي عالما من الأحاسيس يتجاوز ما هو مرئي. يصنف أسلوبه بالتجريبي الما بعد حداثي، إذ يختلق أساليب جديدة، لكن باستلهام واعٍ للمرجعية الدينية والأدبية والفلسفية التي طالما اشتغل عليها. يدعونا جرار غاروست إلى الانتماء إلى عصر الدون كيخوتي لفهم عصرنا الحالي، مبرهنا على أن التشكيل المعاصر يمكن أن يستلهم الحكايات الشعبية والدينية، ليصبح أبديا وصالحا لكل زمان ومتاحا للجميع. وذلك بفضل مزيج دقيق بين الأصالة والحداثة. إن التجارب الفنية الناجحة هي تلك التي تبث روح التجديد في الماضي مستعيدة أرواح الأسلاف لتحكي حكمتها وتنير طريقنا نحو المستقبل؛ لأن الشرط الإنساني الذي أخرج الدون كيشوت من بيته ليحارب الأرواح الشريرة، ما زال قائما إلى يومنا هذا.