أعرف في مشهدنا الثقافي المحلي ظاهرة لا تكاد توجد في أي مشهد ثقافي آخر، وتتمثل تلك الظاهرة في كره القراءة الأكاديمية، بل وصل الأمر ببعض المثقفين إلى الدرجة التي تجعله يأنس بشيطان ولا يطيق رؤية أكاديمي. فما السبب هل ذلك يرجع إلى نرجسية المثقف أو يرجع إلى عنجهية الأكاديمي أو يرجع إليهما معا أو يعود إلى خلل بنيوي في تركيب الثقافة المحلية أو أن علة ذلك تكمن في الفرق بين صرامة القراءة الأكاديمية ، وليونة القراءة غير الأكاديمية. إذا تأملنا الظاهرة في جانبها المنظور نجد أن بعضا من الكارهي القراءة الأكاديمية هم إما أدباء شعبيين تحولوا إلى الأدب الفصيح، أو أدباء وقفوا بأدبهم في منتصف طريق النضج فلم يرتفعوا بأدبهم ولم يرتفع بهم، وفي المقابل نجد أن بعضا من النقاد الأكاديميين دخلوا إلى ساحة النقد لا يشفع لهم إلا الدال التي حصل عليها بعضهم في وقت مضى كان من حصل على ذلك الدال يعد مميزا لحصوله لا مميزا لتميزه في أدواته وفي إضافاته، بل إن بعضا من النقاد قد استعمل الدال للمسابقة على المناصب الثقافية، وعلى المنابر الصحفية وعلى إعمال الوصاية على الحركة الأدبية من قبيل إطلاق أحكام ارتجالية انطباعية بعيدة عن العلمية وانضم إلى هذه الطائفة من النقاد الأكاديميين القدامى الطائفة الثانية من مخرجات الجامعة السعودية التي يطغى عليها الضعف والتقليدية والطائفة الثالثة من النقاد أصحاب الدالات المزورة ومن هؤلاء مبدعون وصحفيون يمارسون النقد والإبداع ويمارسون كل شيء بدالتهم المزورة أيضا ويتصدر بعضهم الواجهة بسطحية وانتهازية فجة... ولم تقف المشكلة عند هذا الحد بل إن الأصوات تتعالى بين فترة وأخرى بإقصاء كل من يحمل الدال من المشهد الثقافي وكأن الثقافة في تناقض مع الأكاديمية بحيث إذا ظهرت هذه غابت تلك، وكأنه لا يجوز لمن يحمل الدال أن يكون أديبا أو مثقفا! وبهذا قد تتضح صورة خلل بنيوي في تركيب المشهد الثقافي فيما يتعلق بهذه الناحية، ولكن هذه الصورة في نظري هي أقرب إلى الصورة المتوهمة منها إلى الصورة الحقيقة وذلك يتضح إذا حاولنا النظر إلى المسألة من خلال فعل (القراءة والتلقي) فالقراءة الأكاديمية الصحيحة تقوم على الاعتماد على الأسس العلمية في النقد وعلى إعمال النظريات المختلفة بدقة لمقاربة العمل الأدبي ومن ثم عقد صداقة معه وبث جوانب جديدة من الحياة فيه بعيدا عن إطلاق أحكام الجودة والرداءة التي عفا عليها الزمن، على أن هذه الأحكام المتعلقة بالجودة والرداءة قد تظل أحيانا خاصة بمرحلة معينة تتمثل في الحكم للأعمال الأدبية التي في طور النشوء وليست للأعمال الأدبية العالية التي تجبر النقد على قراءة حوارية تتضح فيها أبعاد تلقي الناقد متوازية مع أبعاد العمل الأدبي نفسه. غير أن هذه القراءة الحوارية قد لا تكفي في الحكم على بعض الأعمال الأدبية التي يتم تقديمها إلى جوائز أدبية سواء في السرد أم في الشعر حيث يضطر كثير من المحكمين إلى اختيار مقاييس أكاديمية نقدية ما وفق نظريات ما للحكم على أفضلية عمل دون آخر... ولكننا في نهاية الأمر سنقدم قراءة سواء أكانت من أكاديمي أم كانت من قارئ أو ناقد غير أكاديمي، وهذه القراءة مهما كانت متجردة ومهما كانت أكاديمية هي رهن بخطاب الثقافة العام الذي يؤطر إنتاج المعرفة، فحقول التفكير والتعبير واقعة تحت قبضة قوية من المعارف والنماذج النظرية، وهذه كلها تدخل في الذهن الفردي بحيث لا يعود بمقدورنا القول بثقة كاملة أين تنتهي الفردية وأين يبدأ الحيز العمومي، يرى إدوارد سعيد أن التمييز لا يكون إلا بالأنسنية التي هي إلى حد بعيد تقوم بمقاومة الأفكار المسبقة وبمعارضة كل أنواع الكليشيهات، وتتم القراءة الأعمق من خلال رصد جدلية التعارضات والتناقضات بين الظروف الاقتصادية والاجتماعية المسير بها الفرد سلفا وبين الفرد الإنسني. إذا وصلنا إلى هذا المستوى من العمق في فعل القراءة فإننا نرتقي إلى طبقة القراءة التي تكسر حدود الأكاديمية وحدود غير الأكاديمية لتقدم قراءة من خارج الإطار وليس من داخله، وعندئذ تتسع دائرة الرؤية والرؤيا معا، ولن يمكننا الانتقال إلى هذه الطبقة من القراءة إلا بمزيد من التجرد وإلا بمزيد من الصرامة وإلا بمزيد من المعاصرة وإلا بمزيد من الحوار ونتفق في النهاية تمام الاتفاق مع موريس بلانشو الذي يقول: «إن أكثر ما يهدد القراءة هو واقع القارئ وشخصيته، وهو تجنبه التواضع وعناده على البقاء كما هو أمام ما يقرأ».