قارن أدونيس، في حواره مع الشاعر عبده وازن، بين الكتابة المغاربية والكتابة المشرقيّة مقارنةَ ناقدٍ استقرأ خصائص الكتابتين واطّلع على أهمّ الأسئلة التي تنطويان عليها. ومن دون مواربة، أقرّ أدونيس بإسهام الكتابة المغاربيّة في تحديث الثقافة العربيّة، وإرهاف أدواتها الفكريّة والإبداعيّة، بل جنح، في بعض الأحيان، إلى توكيد تفوّق هذه الكتابة، في بعض المجالات، على أختها المشرقيّة. وقد لا نجانب الصّواب إذا قلنا إنّ أدونيس هو أوّل شاعر كبير يتحدّث عن الأدب المغاربيّ بكلّ هذا الحبّ، بكلّ هذا الاطّلاع، بكلّ هذا الاعتراف. لكن إقرارنا بقيمة هذا الحوار لا يحول دون تقديم بعض الملاحظات تستدرك على بعض ما جاء فيه، بل ربّما تكمن قيمة هذا الحوار في الأسئلة التي يثيرها لا في الأجوبة التي ينطوي عليها - هذا إذا أقرينا بوجود أجوبة ينطوي عليها هذا الحوار. وقبل إبداء ملاحظاتنا نحبّ أن نستعرض أهمّ أراء أدونيس التي جاءت في هذا الحوار. ينفي الشاعر منذ انعطافه على الثقافة المغاربيّة وجود وحدة شعريّة تجمع بين مختلف الأقطار المغاربيّة «فما يكتب في تونس مثلاً يتميّز عمّا يكتب في المغرب والجزائر، فهو الأكْثَرُ قرباً إلى اللّغة المشرقيّة، وما كتب ويكتب باللّغة الفرنسيّة يختلف كليّا عمّا يكتب بهذه اللّغة في لبنان» غير أنّ أدونيس سرعان ما يستدرك ليقول «إنّ الكتابة المغاربيّة باللغة الفرنسيّة أكثر قوّة منها باللغة العربيّة» ثمّ يضيف «لا نجد في الدّول المغاربية حتّى الآن روائيين أو شعراء باللّغة العربيّة في مستوى كتّابِها باللغة الفرنسيّة، كاتب ياسين، محمد ديب أو رشيد بوجدرة أو ياسمينة خضره أو آسيا جبّار أو محمد خير الدّين أو عبدالكبير الخطيبي». ثمّ يلتفت من جديد إلى الشّعر المغاربي المكتوب باللّغة العربيّة ليقارن بينه وبين الشعر المشرقيّ فيقول «الشعر المغاربيّ باللّغة العربيّة، وأعني شعر الأجيال الرّاهنة الشّابة، أعمق دلالة وأقلّ هجساً بالذّاتيّة (وهما مزيتان) من شعر الأجيال الرّاهنة في المشرق العربي»، لكن الثقافة المغاربيّة ليست ثقافة شعريّة فحسب بل هي ثقافة فكريّة «فالفكر في المغرب متمثّلاً في محمد أركون وعبداللّه العروي وهشام جعيّط تمثيلاً لا حصراً أكثر غنًى وعمقاً من المشرق العربيّ». لكنّ الإبداعيّة المغاربيّة تتجلّى أقوى ما تتجلّى، في نظر أدونيس، في الفنون التشكيليّة، وفي هذا السياق يتساءل «ما يكون في هذه الظّاهرة دور التوتّرات والصّراعات اللّاواعية والواعية التي تعيشها لغات المغرب العربي غير التشكيليّة: العربيّة الفصحى، العربيّة الدّارجة، الأمازيغيّة، اللّغة الفرنسيّة». تلك هي الآراء التي تضمّنها حوار أدونيس حول الثقافة المغاربيّة وهي، على أهميتها، وربّما لأهميّتها تستدعي منّا الملاحظات الآتية: 1- ثمّة، في الحوار احتفاء كبير بالأدب المكتوب بالفرنسيّة في المغرب العربي وأخاف أن يكون أدونيس قد صدر في آرائه ومواقفه عن اعتقاد خاطئ ما زال يستبدّ بعقول بعض المثقّفين في المشرق العربي وهو أنّ المنطقة المغاربيّة «منطقة فرنكفونيّة» وأنّ أدبها الحقيقيّ لم يكتب باللّغة العربيّة وإنّما كتب باللّغة الفرنسيّة. ففي قوله «إنّنا لا نجد في الدّول المغاربية حتّى الآن روائيين وشعراء باللّغة العربيّة في مستوى كتابها باللّغة الفرنسيّة» تعميم مخلّ لا يقرّه واقع الثقافة المغاربيّة. لا أريد، في هذا السياق، أن أقارع أسماء بأسماء. (الأسماء التي ذكرها أدونيس بأسماء أدباء ومبدعين مغاربيّين يكتبون باللّغة العربيّة) كما لا أريد أن أقارع نصوصاً بنصوص ولكنّني أكتفي بالقول إنّ الأدباء المغاربيّين المعاصرين أنجزوا أعمالاً إبداعيّة باللّغة العربيّة لا تقلّ بهاء وغنى عن الأعمال التي أنجزها الأدباء المعاصرون الذين يكتبون باللّغة الفرنسيّة. 2- نحن لا ننكر أهميّة الأدب المغاربي المكتوب باللّغة الفرنسيّة ولا «قوّته» على حدّ عبارة أدونيس، لكنّ هذا الأدب، بات ينتمي، في مجمله، إلى مرحلة تاريخيّة آفلة أو هي بصدد الأفول - ما يمثّل اللّحظة الرّاهنة، ويفصح عن عميق أسئلتها هو الأدب المكتوب باللّغة العربيّة. ويكفي أن يتأمّل أدونيس المشهد الثقافي المغاربي حتّى يقف على تقهقر الأدب المكتوب بالفرنسيّة وتراجعه. أسباب عديدة تسوّغ هذا التراجع وذلك التقهقر بعضها سيّاسي/ اجتماعي/ وبعضها ثقافيّ تعليمي... 3- إنّه لأمر ذو دلالة أن يتحوّل الكثير من الأدباء والمفكريّن المغاربيّين من الكتابة باللغة الفرنسيّة إلى الكتابة باللغة العربيّة، وأن تظلّ كتاباتهم مع ذلك لافتة وقويّة من بين هؤلاء نذكر: عبدالفتّاح كليطو، هشام جعيّط، عبداللّه العروي. 4- إذا جاز لنا أن نتحدّث عن الظاهرة الإبداعيّة المغاربيّة بشكلها الأكثر خصوصيّة على حدّ تعبير أدونيس فينبغي في اعتقادي الحديث عن الظاهرة المسرحيّة. فالمسرح في البلاد المغاربيّة بعامّة، وفي تونس على وجه الخصوص، فتح آفاقاً جديدة في اللغة المسرحيّة العربيّة وأنجز خطاباً دراميّاً حديثاً في أدواته وفي أسئلته وفي رؤاه. هذه بعض الملاحظات أردنا أن نبديها لا لاستدراك ما جاء في هذا الحوار، لكنّ هذا الاستدراك لا ينبغي أن يحجب عنّا قيمته فهو من قبيل الحوارات التي تضيء وتثير: تضيء جوانب من شخصيّة أدونيس وأدبه، وتثير المزيد من الحيرة، المزيد من الأسئلة.