ولد أغوستو مونتير وسو سنة 1921 بالهندوراس، وعاش بالمكسيك لكن أصله من غواتيمالا. زاوج منذ شبابه بين مطالعة الكتب الكلاسيكية في الأدبين الإسباني والإنجليزي وبين ممارسة أعمال مختلفة من أجل إعالة أسرته. في سنة 1944 نفي إلى المكسيك لأسباب سياسية، وهناك أتم دراسته الجامعية، وبدأ ينشر نصوصه القصصية في مجلات مختلفة. توفي سنة 2003 بالمكسيك مخلفا عددا كبيرا من الأعمال الأدبية منها: حركة دائمة (قصصية 1972) وما تبقى صمت (رواية 1978)، والكلمة السحرية (مقالات 1983). في المغرب، تعرف القصة القصيرة حركية إبداع ونشر مثيرة للاهتمام، خصوصا من طرف المهتمين بالأجناس والقضايا الأدبية. ويعود الفضل في ذلك إلى بحوث جامعية وأنشطة جمعيات ونوادٍ وصالونات أدبية أولت للقصة مكانة بارزة. ووسط هذه الحركية ظهرت مجموعات قصصية وكتب مترجمة وكتب دراسية كلها تهتم بجنس القصة القصيرة أو الأقصوصة. ومن بين هذه الكتب المهمة كتاب أغوستو مونتير وسو «النعجة السوداء وحكايات أخرى» ترجمه عن الإسبانية حسن بوتكي وسعيد بن عبدالواحد. تتكون هذه المجموعة القصصية من 101 أقصوصة كلها تقريبا تتحدث عن الحيوانات في علاقتها ببعضها البعض أو في علاقتها بالإنسان. يصدر أوغوستو هذه الحكايات بكلمة لكنيو موبوتو تعبر عن استراتيجية تأليفه للنعجة السوداء وأهدافه منها: (تشبه الحيوانات الإنسان إلى درجة أنه يستحيل، أحيانا، أن نميزها عنه). تعتمد هذه الأقاصيص على الخرافة بحكم أنها محكي أسطوري يوظف الحيوانات في عوالمها الأصلية، وهي عوالم تشترك فيها مع الإنسان والغاية من ذلك استنباط العبر كي يستفيد منها السامع/ القارئ في حياته ليتعلم منها ويتفادى الوقوع في الشر أو الزلل أو الخطأ الناتج عن السذاجة أو الثقة العمياء أو الكسل أو الرضوخ والاستسلام.. وهنا يشبه منتيروسو ابن المقفع في كليلة ودمنة. اعترف إيطالو كالفينو في تقديمه لحكايات مونتيروسو أنه لم يسبق له أن قرأ قصة قصيرة جدا محكمة البناء وشديدة السرعة مثل قصة أوغوستو: «عندما استيقظ وجد الديناصور لا يزال هناك». ومنذ تعرفه على هذه القصص القصيرة لم يتردد كالفينو في تقديم الكاتب الغواتيمالي للقراء في أوربا والتعريف بأدبه. يتميز أسلوب أغوستو بالإيجاز والسرعة والمفارقة الساخرة والفكاهة في أحيان كثيرة، وكذلك الاستنتاج التأملي الذي يعطي الانطباع أن الأقصوصة لديه ما هي إلا ستارة تحجب الحقيقة، وكأنها محشوة في الداخل بالدمى الروسية الشهيرة كلما وجدت واحدة بحثت عن أخرى.. وهكذا دواليك قد تنتهي اللعبة ولكن الإيهام اللامتناهي لا ينتهي أبدا. لنأخذ اللحظة هذا النموذج القصصي للتدليل على ما قلناه سابقا: مونولوج الشر «ليست الأمور بهذه البساطة كما يظن الأطفال وأغلب الكبار» هكذا فكر الخير ذات مساء. «يعلم الجميع أنني في بعض المناسبات، أختبئ وراء الشر، كما يحدث عندما يمرض المرء ولا يستطيع ركوب الطائرة، فتسقط الطائرة ولا ينجو أحد. كما يعلم الجميع أنه، في بعض الأحيان، على العكس من ذلك، يختبئ الشر ورائي. ليست الأمور بهذه البساطة. بمجرد الانتهاء من قراءة هذه الأقصوصة نخرج بفكرة مفادها أن الخير وجه آخر للشر والشر وجه آخر للخير كأنهما الوجه نفسه في العملة الواحدة. فما يظهر شرا لشخص قد يظهر خيرا لآخر. قد يبدو تكثيف هذه الفكرة بسيطا وبهذا العدد القليل من الكلمات لكن الأقصوصة ملغومة بالإيحاء التراثي السحيق. كل هذه المعطيات الزاخرة بالإيحاءات يوظفها أوغوستو بدقة وبراعة واستنتاج تأملي يستحضر القارئ بقوة كما كان يفعل الرواة القدماء وهم يلكزون المتحلقين حولهم: «هه انتبه الحكاية لم نتنه بعد»! إن القارئ بتصوراته المسبقة يربط بين متخيله وواقعه ليدخل في مطابقة بين الشخصيات والأشياء الموجودة في الأقصوصة وما يعيشه من متمنيات ورغبات وإكراهات أي مجموع تمثلاته عن العالم، لكن الإيقاع التي يقترحه الكاتب يوجهه إلى أن مفهوم الشر أو الخير مسألة معقدة، فما يعتقده شرا لم يعد كذلك، وما كان يعتقده خيرا لم يعد أيضا كذلك. الكاتب هنا توصل إلى قصديته وهي زرع الشك في القيم السائدة لأنها متبدلة وما هو أبيض اليوم قد يصبح غدا أسود والعكس صحيح. سأقدم مثالا آخر يسير مسرى الأول مع اختلافات أعمق: النعجة السوداء في قديم الزمان، كانت ببلاد بعيدة نعجة سوداء. أعدموها رميا بالرصاص. بعد قرن، وضع لها القطيع النادم تمثالا فروسيا جميلا في الحديقة. هكذا، وفيما بعد، كلما كانت تظهر نعاج سوداء، كانت تعدم بسرعة رميا بالرصاص، حتى تتمكن النعاج العادية والمألوفة في الأجيال المقبلة من التمرن على فن النحت. تجسد هذه الأقصوصة مهارة أوغوستو وصنعته القصصية، فهي أولا توظف تقنية القصة القصيرة جدا أو الأقصوصة التي تعتمد على ما يلي: * الإيجاز: بعدد قليل من الكلمات (50) كلمة استطاع الكاتب أن يشيد حكاية/ خرافة دقيقة البناء غير قابلة للحذف أو الاختصار أو تغيير المواقع السياقية، أي أنها كتابة سنتمترية تطرح ببداية زمنية وحدث إشكالي ونهاية استنتاجية. * السرعة: ما يميز الأقصوصة بصفة عامة سرعتها في الأداء السردي أي أنها تقصد طي الزمن في عبارة صغيرة: أعدموها بالرصاص/ بعد قرن/ هكذا وفيما بعد/ كانت تعدم بسرعة. إن مثل هذه السياقات الزمنية تحدث طفرات مهولة في الثقب الأسود للأقصوصة وتوسع بشكل ملحوظ أفق التلقي على سرعة زمنية داخلية تتمثل في الانفعال والتوتر من البحث عن الدلالة. * المفارقة: غالبا ما تكون تراجيدية، لكنها تقدم بسياقات ساخرة كنوع من الفكاهة السوداء، وتظهر في هذه القصة في موضوعة التكالب المتوحش على قتل كل ما هو مختلف عن السياق والمفاهيم المتداولة وتطقيس موته كشعيرة احتفالية يمارسها القتلة لتعلم فن النحت، كأن يشارك الجميع في جريمة قتل في سبيل أن تعلم فن الرثاء أو فن الرماية لكن ذلك يصحبه شعور بالذنب لا يتطهر منه البشر إلا بمزيد من القتل والشعائر. ويمكن ملاحظة ذلك من خلال القصتين التاليتين: الستة الآخرون يحكى أنه كان في بلد بعيد، منذ سنوات، بوم استطاع بكثرة ما كان يتأمل الأشياء ويتفانى في دراستها ويفكر ويترجم ويلقي محاضرات ويكتب شعرا وقصصا وسيرا ذاتية وتعاليق سينمائية وخطابات ومقالات أدبية وأشياء أخرى كثيرة، أن يعرف كل شيء ويطرق جميع المواضيع المتعلقة بكل فروع المعرفة الإنسانية، بشكل لافت جعل المتحمسين له من معاصريه يعتبرونه في الحين أحد الحكماء السبعة بالبلد، دون أن يستطيع أحد، إلى اليوم، تحديد هوية الستة الآخرين. المعلم الصرار .. في غابر الزمان، وذات يوم من أدفأ أيام الشتاء، دخل مدير المدرسة بغتة إلى القاعة التي كان الصرار يلقي فيها درسه على الصرارين الصغار حول فن الغناء، وبالضبط في لحظة من العرض كان يشرح لهم فيها أن صوت الصرار هو أحسن وأجمل الأصوات، إذ أنه يصدر عن طريق الاحتكاك المناسب للأجنحة مع الجنوب، في حين أن العصافير تغنى برداءة لأنها تصر على الغناء بحنجرتها التي هي بالطبع العضو البشري الأقل ملاءمة لإصدار أصوات جميلة ومنسجمة. .. عند سماعه لذلك، أومأ المدير، الذي كان صرارا عجوزا وحكيما جدا، برأسه عدة مرات، ثم انصرف مسرورا، لأن كل شيء في المدرسة باقٍ كما كان عليه في زمانه. مما لا شك فيه أن الأقصوصة فن سردي متميز، لكنه يضيق الخناق على نفسه بلغته الموجزة وشعريته المكثفة وسرعته المغامرة وسخريته الحادة. ومع ذلك نجد أدباء تجربة وأسلحة إبداعية تمكنهم من تطريز قصص قصيرة بعناء عجيب تمنح القارئ نسيجا دقيقا ميزته الأساسية الانفتاح على القراءة، فالأقصوصة بدون قارئ جيد يحفر على ظهور دلالاتها الحقيقية، مفككا اختزالها المغلق إلى دلالات لا نهائية لن تتحقق قراءة نموذجية وتأويل تفاعلي يعيد الاعتبار لهذا الجنس الأدبي المتهم في منجزه السردي وقيمته الأدبية، لكن مع مونتيروسو تنهار التهم جميعها ويتوج الأدب الجميل والعميق سيدا على باقي الأجناس. ***أغوستو مونتير وسو: النعجة السوداء وحكايات أخرى. ترجمه عن الإسبانية حسن بوتكي وسعيد بن عبدالواحد. منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب (2003).