أستطيع أن أشبِّه الإنسان بالبطارية لفترة من الزمن تتقلص طاقتها وتحتاج إلى إعادة شحن والفرق بين الموت والحياة لدى الإنسان هو كسر حاجز «إعادة الشحن»... سمعنا عن ظاهرة بيولوجية تدعى «البيات الشتوي»... وطبعا أول ما يتبادر إلى ذهننا هي صور وضعت في اللاوعي لدينا قد تكون غير صحيحة تصبّ في فكرة الكسل والخمول ولو راجعنا هذه الظاهرة قليلاً لوجدنا كثيراً من المدلولات المفيدة والعميقة... ملاحظة: عندما أحلِّل الآن الظاهرة فأنا أقصد ومن غير «طرق غير مباشرة» إسقاط المعاني على الإنسان، فنستطيع أن نتعلم من الحيوان الكثير في ما يصب في حياتنا مع معرفة الاختلاف التكويني... أولا: ما الذي يدعو الحيوان لهذه الظاهرة؟ هل هي ظروف داخلية أم ظروف خارجية؟ ثانيا: أثناء مرور فصل الصيف، أي فصل النشاط والتدفق التسهيلي... فإن الحيوان يجمع قدر المستطاع لما هو تمويل وغذاء لفصل الشتاء، أي أنه يفكر (أقصد بالفطرة) في البُعد المستقبلي ولا تخدعه اللحظة في بناء قاعدة مريحة منذ الآن لتلك الفترة الصعبة... ثالثا: أثناء ما يكون في فترة البيات فإنه يغذي نفسه جسدياً (ونحن فكرياً وهذا الفرق) ويقوم جسمه ببناء العلاقات والجسور الجديدة بين خلاياه (بينما نحن نخطّط ونربط الأفكار ونبني لما هو آت)... إذا الحيوان يمهد طريقه للفراغ وكأن ذلك حاجة فسيولوجية لديه... قد تكون كذلك عندنا بل وأكثر، فهي حاجة فكرية لدينا وسيكولوجية... فالإنسان لا يستطيع أن ينجز من غير فترة الفراغ، بل هي مقام الإنجاز كما عرفنا من أكثر علماء وعظماء العالم... فالفراغ هو منطقة الشحن لدى الإنسان... أي يدخل من خلالها كل الطاقات الفكرية والروحية والجسدية... وفي نفس الوقت الفراغ طاقة للشحن تعطيه ما يميّزه عن الإنسان الآلي، وتُكسِبه التميّز الإرادي... ويقول العقّاد في كتابه الذهبي «أنا» في فصل «تعلّمت من أوقات الفراغ»: «وليس معنى «وقت الفراغ» أنه الوقت الذي نستغني عنه ونبدّده ونرمي به مع الهباء، ولكن وقت الفراغ هو الوقت الذي بقي لنا لنملِكه ونملك أنفسنا فيه، بعد أن قضينا وقت العمل مملوكين مسخّرين لما نزاوله من شواغل العيش وتكاليف الضرورة» (ص 116)... وهذا بالضبط ما أردت به مقالتي أن تنتهي... فأنا عملت هذه اللفة الطويلة العريضة (المفيدة) لكي أصفَ ما مررت به من حالة ضمور وليس سكون... فالسكون هو الموت... أي التوقف... أما الضمور فهو انكماش مقصود (خارجي) في مرحلة متحركة (داخلياً)... وأتمنى أن أكون، كما وصف العقّاد، منهكاً من العمل والإنجاز... ففي النهاية هذا العمل كله محاولة «ضد التبرير»...