«توضع قضيّة المرأة في موضعها الصحيح يوم يُقضى فيها على أنَّها علاقةٌ بين شريكين، يتوزّع بينهما العمل على حسب اختلاف الوظيفة والاستعداد.. وكلاهما خاسرٌ مغْبون إذا أخلَّ بحق شريكه». تلكم الكلمات تطل برأسها حين الخوض في مسائل المرأة وقضاياها، وحين يكثر الحديث عن شؤونها وشجونها، استحضرها اليوم حيث يشتغل بعض (الْكَتَبة) بقضايا المرأة، فمع إقراري بتنوّع قراءاتي المتواضعة حولها، لم أعثرْ بعْدُ على باحثٍ كان أو مفكرًا، استطاع الغوص في أغوارها الدّفينة، وجوانبها الخفيّة أمثال الأستاذ عباس محمود العقاد (1889- 1964) في كتاباته عن المرأة؛ بدءًا بخواطره في كتابه (الخلاصة اليوميّة والشذور)، مرورًا بقصة (سارة)، وليس انتهاءً بكتابيّه المعروفين (هذه الشجرة)، و(المرأة في القرآن)، أو من خلال بعض مقالاته المجموعة في (عيد القلم)، و(مطالعات في الكتب والحياة)، أو من خلال دواوينه الشعريّة ما ينوء المقال والمقام عرضًا أو اختزالاً في زاوية صحيفة سيّارة؛ ولكنّني أخْذًا بقول القائل: “ما لا يُؤخذ كلّه لا يترك جُلّه». تساوقًا بصدق إعادة وقائع التأريخ؛ في صورة من الصّور شئنا أم أبينا. • • • إنَّ القارئ الجيّد لكُتب العقاد، ونتاجه الفكريّ المتنوّع يدرك تمام الإدراك أنّه رجلٌ ليس بذاك الغريب عن المرأة: قضاياها، وشؤونها، وشجونها. ولقد تأمّلها حقّ التّأمل في تجارب حيّة كإنسان؛ ما ينبئ عن التصاق حقيقيّ بجوانبها العقليّة، والنفسيّة، والتكوينيّة: فكرًا، وروحًا، وجسدًا. وتفحّص بجدٍ ومثابرة ما كُتب عنها في ثنايا ما خطّه كبار الباحثين أمثال: شوبنهور وتلميذه توفا ينجر خاصّة، لهذا نجد العقاد يقول: “وقفتُ على آراء في المرأة للفيلسوف الألماني آرثر شوبنهور فأعجبني حذق الرجل وجرأته على المجاهرة بأقوال يُعدُّ قائلها في أوروبا خلوًا من التّهذيب، وسلامة الذّوق، وإنْ كنتُ أراه قد غلا مذهبه إلى حدٍّ ربّما كان الدافع إليه غلو المدنيّة في نظرها إلى المرأة ورعايتها إيّاها”. ومن الآراء التي يتّفق العقاد فيها مع شوبنهور تعليله لما نراه غالبًا في المرأة من جمال بأنّها الغريزة؛ لهذا نجده يقول: “التي تزيغ بصرنا، وتطمس على بصيرتنا، فتلهينا عن عيوب خلقتها، كما يلهينا الجوع والظّمأ عن عيوب الطّعام الخبيث، والشراب والكدر”. ولا يمكن لأيّ باحثٍ منصفٍ أنْ يتجاهل الأثر الكبير للقرآن الكريم، والدِّين الإسلاميّ الحنيف باعتبارهما مصدرين مهمّين تأثر بهما العقاد بعمق في رأيه بالمرأة، وحسبي أن أذكّر بكتابه (المرأة في القرآن)، إذ لا يكتفي فيه بذكر الخواطر المجنّحة، واللّمحات المستعجلة؛ دون الغوص في الجوهر واللباب بعيدًا عن التّسطيح والقشور كدأب بعض الباحثين في قضايا المرأة، كما أنَّه لا يقف عند حدود الإشارات الباهتة، أو المستهلكة؛ بل يسوق قضاياها مُتْبعًا إيّاها بالدّليل تلو الدّليل، والبرهان إثر البرهان، والشّاهد وراء الشّاهد. ولا يغيب عن الباحث أنّ الكتاب المشار إليه سابقًا أُلّف عام 1959م، وعمر العقاد ينيف عن ستين عامًا، حيث بلغ به النضج والخبرة درجةً تؤهله للخوض في هذا المضمار، فلا سبيل إلى القول بطغيان العاطفة، أو هيجان المشاعر، أو قلّة الدّربة. يبدأ العقاد فصل كتابه الأول بعنوان (وللرجال عليهنّ درجة) مشيرًا إلى الآية القرآنيّة: (ولَهُنَّ مِثْلُ الَذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ولِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ). وهي درجة الإشراف العام على الحياة العامّة بحسب تعبيره. ولعلّ هذا الاستهلال يوحي إلى اتّجاه العقاد منذ البدء لتفضيل الرجل على المرأة؛ ممّا يتنافى والقول ب(المساواة المطلقة) بينهما؛ كما تنادى المرأة حينًا، والرجل حينًا آخر. مع هذا فالعقاد لم يكن ليكتب عن المرأة قائلاً بتفوق الرجل عليها بمعزل عن تفكيره كباحث ومفكر إسلامي خبر المرأة، لهذا نراه يطرح تساؤله المنطقي: لماذا لم تكن المرأة في عصر من العُصُور نبيّةً؟! فكيف كانت إجابته عن هذا التساؤل الكبير؟ هذا ما سنعرفه في الأسبوع المقبل -إن شاء الله-.