أتابع بقدر ما تسمح به الصحة والوقت كثيرا من المقالات النقدية عن الرواية في العالم العربي. وبشكل عام فإن معظم الروائيين العرب قرأوا بشكل أو آخر الروايات في العالم ودرسوا بدرجات مختلفة أيضا مناهج النقد الأدبي والمدارس الأدبية. كانت هذه الدراسة وهذه القراءة في الأزمنة السابقة هامة جدا لأي كاتب؛ لأن الروايات العربية لم تكن بهذه الوفرة ولا بهذه القدرة على استكشاف وتحقيق الجمال. الآن منذ نصف قرن تقريبا، بالتحديد منذ عقد السبعينات من القرن الماضي لدينا انفجار في الرواية العربية شمل كل الدول العربية. قبل ذلك طبعا كانت هناك روايات في كل البلاد العربية، لكنها لم تكن بهذه الوفرة، ومن ثم لم يعد هناك معنى لسؤال هل دولة كذا أو كيت صارت فيها روايات مثل الرواية المصرية. الفارق الوحيد هو تناسب العدد مع عدد السكان. وفي كل البلاد الروائيون يولدون تقريبا كل يوم. لكن لا تزال الكثرة الغالبة على الدراسات الأدبية عن عمل ما من الأعمال ثم يمكن أن تجد كتابا لناقد كبير وهذا متوفر جدا يضم مقالاته عن الرواية العربية عموما أو الرواية في بلد ما من البلاد العربية. كذلك يمكن أن تجد رسالات جامعية عن الكتاب، وهذه أيضا صارت متوفرة جدا ولعلها في بعض البلاد العربية مثل المغرب أكثر منها في مصر. لكن السؤال الذي أسأله لنفسي دائما هل هذا الإنتاج الوفير والعظيم لا يكفي لوجود دراسات عن جماليات الرواية العربية. وأقصد بالجماليات هنا شكل الرواية، ابتداء من اللغة إلى البناء والرؤى المختلفة للزمان والمكان، وأثر ذلك على أيضا على اللغة وشكل الرواية، بحيث يمكن أن يجد القارئ أمامه ما يغنيه ولو قليلا عن دراسة الأشكال الروائية في العالم عبر التاريخ. أظن أن هذا ممكن جدا. وأظن أن الرواية العربية حافلة بالإنجازات في الشكل والاستخدامات المختلفة للغة، بحيث يمكن لنا أن نصل إلى أكثر من نظرية في الكتابة. قديما وكلنا نعرف ذلك حين بدأ نجيب محفوظ الكتابة وضع نصب عينيه أن يقيم للرواية العربية تاريخا مثل تاريخ الرواية في العالم، فبدأ بالرواية التاريخية ثم الرواية الواقعية ثم الرواية الفلسفية ثم الرواية الحداثية حتى ما بعد الحداثة أيضا. وحده فعل ذلك مازجا بين ثقافته الأجنبية وثقافته المصرية والعربية. لم يعد هناك كاتب قادر أن يفعل ذلك وحده، فضلا عن أنه لم يعد من الضروري للكاتب أن يفعل ذلك، فالعادة أن يبدأ الكتاب الموهوبون من حيث انتهت الرواية. بل ويمكن وبسهولة جدا أن نجد جماليات جديدة ينجزها الكاتب الواحد وتصير علامة في الكتابة تخصه وقد يفيد منها غيره من الكتاب الأحدث. من يستطيع أن يضع يده على هذا كله غير النقاد؟ قديما كان لدينا وربما لا يزال من يجهد نفسه ليرد الرواية كفن إلى التراث العربي وكذلك القصة القصيرة بل ونظريات النقد في العالم. فكل ما ابتدعه علماء اللغة أو مفكروها تجد على الفور من يقارن بينه وبين كتابات رجل عظيم مثل ابن جني أو الجاحظ، فتقف مندهشا كيف كانت البنيوية عندهما وكيف كانت الألسنية ولم نكن نعرف! كل هذه دراسات قيمة تعطي ماضينا قيمة عظيمة، ولكن أليس من الواجب أن نعطي حاضرنا نفس الأهمية بحيث نبحث في الرواية العربية عن جماليات يمكن أن يفيد منها الكاتب العربي والكاتب الأجنبي أيضا لو أتيحت ترجمة هذه الأبحاث التي يمكن أيضا تقديمها في المؤتمرات العالمية للرواية التي بلا شك يحضرها كثير من النقاد والمفكرون العرب. أجل، ليس من المعقول أن يكون لدينا كل هذه الروايات وكل هؤلاء الكتاب العظام من كل الأجيال ولا نجد خيوطا بينهم تقدم دراسات هامة في جماليات الرواية بكل تجلياتها الشكلية. زمننا للأسف هو زمن الموضوع أكثر من الشكل، فما أكثر الدراسات التي تكلمت عن المدينة والريف والصحراء والسجن والمساواة بين الرجل والمرأة ووضع المرأة العربية وما تشاء من موضوعات، لكن ما أقل الدراسات الجامعة التي تتحدث عن جماليات الرواية العربية في وقت يكتب الكتاب جميعا بلغة واحدة هي اللغة العربية! منذ أسبوعين كتبت هنا أن سؤال كيف تكتب هو الأهم للكاتب وليس ماذا تكتب. وأوضحت كيف صار الأدب المباشر أكثر رواجا ومبيعا لغياب النقد حرجا أو عدم اهتمام عن هذا النوع من الكتابة. وأظن أن كتابة عن جماليات الرواية العربية يمكن أن تقرب طريق التلقي الصحيح للأدب بقدر ما تساهم في الكتابة الحقيقية واستمرارها. [email protected]