من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب.. مازالت «عكاظ» في عمق الجحيم السوري تستقرئ الأزمة بأدق التفاصيل من الميدان وتعيش القتال بكل أبعاده.. من حلب الشهباء أرض المعارك وميدان فصل المعارك .. إلى مهد الثورة في درعا.. سهل حوران.. شارة بدء الثورة وأطفالها الذين رسموا مسار الحرية. في سورية اليوم معركة بحجم وطن يختلط فيها أزيز الرصاص والدمار ووجع الموت بمعاناة التهجير والجوع والمرض، إنها مأساة يصح فيها القول إن من رأى ليس كمن سمع. «عكاظ» كانت هناك ورصدت حقيقة ما يجري في محافظة درعا مهد الثورة، حيث رائحة الخوف والموت تنتشر في كل زاوية، وليس بين الناس من لم يدفع فاتورة باهظة طفلا كان أم امرأة أم شيخا. أصوات القصف بالمدفعية والدبابات والطيران تكسر سكون ليل حوران لينقشع النهار عن عذابات يومية يعيشها من تبقى من الأهالي داخل البيوت والحارات المدمرة. وعلى امتداد السهل المتصل جنوبا بالحدود الأردنية وشمالا بدمشق تتناثر عشرات القرى التي تتعرض للقصف المتواصل. في حوران، عليك أن تجس التراب وتقرأ ما على الوجوه لتستكشف العلاقة التي تربط بين الأهالي وعناصر الجيش الحر، بحثنا في خيوط العلاقة ليتبين لنا أن عملية الفصل صعبة للغاية، فليس هناك بيت إلا فيه شخص ينتمي للجيش الحر، ويكاد الجميع يعمل في ذات الدائرة.. تجولنا في خمس قرى في الريف الغربي هي: تل شهاب، زيزون، طفس، اليادودة، ومزيريب.. لا مظاهر لحواجز الجيش الحر ولا حتى النظام، فجميع تلك القرى محررة، حاولنا البحث أيضا عن وجود للجماعات المتشددة على الأرض إلا أن شيئا لم نلحظه من هذا القبيل. « تل شهاب» كانت المحطة الأولى في جولة (عكاظ)، إذ يبدو المجتمع متماسكا والأهالي يعرفون بعضهم البعض، إلا أن المتغير الطارئ هو حجم النازحين من مختلف المحافظات والقرى. أبو ناصر الحشيش (أحد أهم رجالات تل شهاب) أشار لنا بقوله: كل من ترونهم على جبهات القتال هم من أبناء القرى التي تمرون بها، ليس بيننا من هو من خارج بيئتنا سوى المقاتلين المنشقين الذين نعرفهم كما نعرف أبناءنا، وهؤلاء كانوا ضمن صفوف النظام العاملة في درعا قبل أن ينشقوا لهول ما رأوه من جرائم بحق المدنيين. يشيح الرجل السبعيني بوجهه فيما دمعة عزيزة تملأ عينه ليخبرنا بأنه قدم ولده شهيدا في إحدى المعارك، كما أن عددا من أبناء إخوته وأقاربه قضوا وهم يقاتلون ضمن صفوف الجيش الحر. يتابع أبو ناصر «نحن قوم معتدلون لم نغير فكرنا ولا عقيدتنا وبيئتنا لا تحتمل كل ما هو شاذ». الأرض لا تحتمل المتشددين لا ينكر زياد العميان وجود عناصر قليلة تنتمي إلى «جبهة النصرة»، إلا أن تلك العناصر كما يقول مهران لا تستطيع فرض أجندتها على الأرض، وهي تتخذ من مبنى متطرف في إحدى القرى بالريف الغربي مقرا لها.. «غالبا ما يختفون عن الأنظار وهم قلة قليلة ويعرفون أن المجتمع في حوران واع ومتحضر وأن نسبة التعليم هنا مرتفعة، كما أن هناك اعتدالا لا يسمح بأي مظاهر متطرفة»، حسبما يقول زياد، وهو طالب في السنة الرابعة لم يستطع إكمال دراسته في كلية الإعلام بجامعة دمشق بسبب الظروف في سوريا. وتابع زياد.. «أضطر أحيانا أنا وإخوتي إلى الالتحاق بكتائب وألوية الجيش الحر إذا لزم الأمر، وأنا أعرف كل الذين يقاتلون على الأرض معرفة شخصية وهذا يمنع اختراقنا أو حرفنا عن الأهداف التي نعمل لأجلها». ثورة لله وعين على الوطن الشيخ فادي العاسمي المنسق العسكري للواء المعتز بالله (أحد أبناء مدينة داعل) أكد أن خروج الأهالي في ثورتهم تحت شعار «هي لله» لا يعني بأي شكل من الأشكال أن يكون التشدد منهجا. سألنا الشيخ العاسمي عن معلوماته حول تواجد مجموعات من «جبهة النصرة» أو «دولة العراق والشام»، والتي يطلق عليها السوريون اسم «داعش»، فأجاب ضاحكاً: «في حوران لا مكان لداعش وغيرها» ، مشيرا إلى أن تلك الجماعة اتخذت من شمال سوريا مقرا ومنطلقا لها، وهي معروفة بأنها تعمل بتوجيهات النظام ومخابرات إيران وروسيا والأسد. أما بالنسبة لجبهة النصرة، فلا ينكر وجود بعض عناصرها إلا أنه يوضح قائلا: «جبهة النصرة ليس لها قوة في ريف درعا، وإن وجدت فهي لا تستطيع التحكم بالأرض وهي من فترة لأخرى تقوم بعمليات عسكرية ضد مواقع لجيش النظام». ويؤكد منسق لواء المعتز بالله أن الهدف الأساس الذي يعمل من أجله الجيش الحر هو تحرير سوريا من عصابات الأسد، وتحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية بعد إسقاط النظام، وهي الأهداف التي خرج من أجلها الشعب السوري ونادى بها. مجموعات منفلتة لا أحد يدعي في المناطق التي تجولنا فيها أن الأمور على أحسن حال، إذ يؤكد مشهور الكناكري قائد سرية الدفاع المدني المهام الخاصة أن الجيش الحر يعاني مشكلة التشتت وعدم وجود اتفاق يضمن توحيد ألويته وتنظيم معاركه، ويغمز الكناكري من قناة بعض المجموعات التي يسميها «المجموعات المنفلتة» التي لا تجد من يضبطها أحيانا، مضيفا: هناك من يقوم أحيانا باعتقال مدنيين يشك في تعاونهم مع النظام ويروي أكثر من حادثة جرى خلالها إهانة أو تعذيب أشخاص قبل التثبت من تورطهم في العمل لمصلحة النظام. وقال إبراهيم المنجر (طالب جامعي لم يكمل تعلميه) إن الأوضاع ليست في أحسن حال إلا أن بعض المشكلات على الأرض سببها حالة عدم التوازن التي تشهدها البلاد، ويذكر «المنجر» أن غالبية الثوار العاملين على الأرض هم منضبطون، إلا أنهم يشعرون أحيانا بأن هناك من يسعى لسرقة ثورتهم من السياسيين والعسكريين المنشقين المقيمين في الخارج. يضيف إبراهيم أن الثورة تحتمل بطبيعتها وجود الأخطاء، إلا أن الأهم هو أن لا تنشأ مجموعات تكفيرية جنوب سوريا، كما هو الحال في الشمال، عازيا سبب انتشار تلك الظاهرة إلى حالات ضعف بينة المجتمع وفقره وجهله، وهو أمر غير موجود داخل قرى حوران. مهمات أخرى ل «الحر» يقول أبو بندر (رجل ستيني) أن الجيش الحر لا تحكمه فقط علاقة انصهار وتداخل مع الأهالي، وإنما هناك مهمة أخرى يقوم بها المقاتلون في القرى المحررة، إذ يقومون بتأمين نقل الجرحى والمصابين من المدنيين، كما أنهم معنيون بنقل المواد الغذائية والأدوية ومتطلبات المعيشية اليومية، فتراهم يتابعون شؤون الناس ويسعون في تذليل العقبات وبيوتهم في ذات الوقت مفتوحة أمام الجميع. ويضيف «أبو بندر»، وفي ظل غياب المؤسسات بقي الجيش الحر وحيدا يقاتل على الجبهة ويؤمن معيشة الأهالي في القرى المحررة، وأن المقاتلين يتكفلون في مختلف الظروف بنقل المعونة إلى المناطق البعيدة، وصولا إلى دمشق، حيث يحرسون قوافل الإغاثة ويؤمنون الطرقات، وهم أيضا في ذات الوقت يفتحون ممرات آمنة لاستقبال النازحين واللاجئين من مختلف المناطق. ولعل حكاية النازحين واللاجئين في مدارس حوران لها قصة أخرى في «حرب الرصاصة والرغيف» التي ترصدها «عكاظ» من داخل الأراضي السورية، وسيكون لها فصل يروي تفاصيل مؤلمة في الحلقة المقبلة.