من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب.. مازالت «عكاظ» في عمق الجحيم السوري تستقرئ الأزمة بأدق التفاصيل من الميدان وتعيش القتال بكل أبعاده.. من حلب الشهباء أرض المعارك وميدان فصل المعارك .. إلى مهد الثورة في درعا.. سهل حوران.. شارة بدء الثورة وأطفالها الذين رسموا مسار الحرية. في سورية اليوم معركة بحجم وطن يختلط فيها أزيز الرصاص والدمار ووجع الموت بمعاناة التهجير والجوع والمرض، إنها مأساة يصح فيها القول إن من رأى ليس كمن سمع. «عكاظ» كانت هناك ورصدت حقيقة ما يجري في محافظة درعا مهد الثورة، حيث رائحة الخوف والموت تنتشر في كل زاوية، وليس بين الناس من لم يدفع فاتورة باهظة طفلا كان أم امرأة أم شيخا. أصوات القصف بالمدفعية والدبابات والطيران تكسر سكون ليل حوران لينقشع النهار عن عذابات يومية يعيشها من تبقى من الأهالي داخل البيوت والحارات المدمرة. وعلى امتداد السهل المتصل جنوبا بالحدود الأردنية وشمالا بدمشق تتناثر عشرات القرى التي تتعرض للقصف المتواصل. أصوات الانفجارات مجهولة المصدر والمكان دفعتنا لسؤال مرافقنا «أبو فندي» منسق لواء المعتز عن طبيعة ما يجري.. وكان الجواب بأن سلسلة معارك تدور في نفس الوقت انطلاقا من بلدة «عتمان» وصولا إلى منطقة «الشيخ سعد» على مسافة 20 كيلومترا نحو الشمال مرورا بمواقع وحواجز يتمركز فيها جيش النظام في «تل عشتر» و «تل الجابية» و «أم اللوقس» ومدينة نوى ومحيطها. وعلى الجهة الجنوبية يقول «أبو فندي» إن معارك شرسة أيضا تدور بين الجيش الحر وقوات النظام في مناطق «مغر صالح» و «اللاوند» ودرعا البلد والمخافر الحدودية وكتيبة الهجانة. ولدى سؤالنا عن الطرف الذي يبادر بالهجوم أكد منسق لواء المعتز أن الجيش الحر هو الذي يحاصر كل تلك المواقع بهدف تحريرها وشل قدرتها على القيام بعمليات عسكرية منظمة تستهدف قرى ريف درعا الغربي والشمالي، ويضيف بأن جيش النظام غالبا ما تكون ردوده على تلك العمليات عبر مزيد من القصف الانتقامي .. «إلا أنها المعركة» حسب أبو فندي الذي يرى أن الضريبة لا بد منها وهي متوقعة من نظام لم يوفر المدنيين حتى بالسلاح الكيماوي وصواريخ «سكود» بعيدة المدى. بوابة درعا من معركة بوابة درعا الشمالية بدأت الجولة حيث خط المواجهات الساخن في المنطقة الفاصلة بين أكبر مركز لقوات النظام على أرض البانوراما والملعب البلدي شمال مدينة درعا وكتائب وألوية الجيش الحر التابعة للمجلس العسكري في المحافظة، كان الموت احتمالا واردا على الطريق الوعرة التي سلكناها على أطراف المعركة وصولا إلى قلبها المشتعل. أبنية مدمرة وقذائف مدفعية تسقط هنا وهناك حول السيارة التي عبرنا بها نحو عتمان، فيما صوت صفير رصاصة القناص الذي استهدفنا يدل على حجم التداخل والتعقيد في المعركة. أول مشهد على الجهة الشمالية الغربية لبلدة عتمان كان موقعا عسكرا محصنا يضم كتيبتين عسكريتين وحقلا للرمي تم تحريرها للتو من قبل الثوار إثر معركة شرسة دارت رحاها لأيام. «مهدي الزعبي» أحد الضباط الذين شاركوا في المعركة وهو برتبة مقدم رافقنا في جولة داخل الموقع حيث رائحة الجثث المنتشرة تملأ فضاء الموقع، ويبدو واضحا من حجم الدمار أن اشتباكا عنيفا أحرق الأخضر واليابس ودمر الآليات والأبنية التي كانت تتحصن فيها قوات النظام. يقول المقدم «الزعبي» إن معركة تحرير كتيبتي «الشيلكا» و «الميكا» وحقل الرمي ليست سوى جزء من المواجهة التي بدأت بحصار عدد من المواقع منذ السادس من أيلول سبتمبر وهي مستمرة حتى تحرير ما تبقى من مواقع النظام في محيط عتمان. يضيف «الزعبي»: تمكنا من اختراق أسوار الموقع وفجرنا تحصيناته مدعومين بمئات المقاتلين من الجيش الحر حيث قتل من قوات النظام نحو ستين بين ضابط وعنصر وتم تدمير عدد من الآليات المدرعة وخسرنا بدورنا عددا من الشهداء وجرح في صفوفنا العشرات. على خط الجبهة الأول تجاوزنا المواقع العسكرية المدمرة على أطراف عتمان وتوغلنا داخل المدينة عبر طريق ترابية لنصل إلى خط الجبهة الأول حيث تدور المعارك، اخترقنا البلدة عرضاً حيث لا بشر هناك سوى الثوار وحيث المباني المدمرة. على الأرض كان المقاتلون المتمرسون من الجيش الحر من منشقين عن قوات النظام والمدنيين الذين اكتسبوا خبرة طوال 30 شهراً يقفون وجها لوجه يخوضون حرب كر وفر. قذيفتان .. ثلاثة .. أربعة ... كنا نحصي عدد قذائف المدفعية التي تسقط حولنا .. صوت انفجارت ضخمة ترج الأرض ورائحة بارود تلف المكان. «أبو شاهر الزوباني» قائد كتيبة الشهيد قحطان طباشة والذي يقود جانبا من المعارك قدم شرحا حول المعركة، مشيرا إلى أن قوات النظام التي لا تبعد أكثر من 500 متر عن الموقع الذي نتواجد فيه لحظتها تحاول التقدم إلا أنها تعرف أن مهمتها باتت شبه مستحيلة فالمقاتلون الثوار عينهم على البانوراما عازمين على دخول مدينة درعا. «الزوباني» بدا متماسكا على نحو مدهش فيما تقوم مجموعة من المقاتلين بتذخير مخازن البنادق وسلاسل طلقات الرشاشات المتوسطة والثقيلة.. سألته إن كان مقاتلوه قادرين على الصمود أمام وابل قذائف المدفعية فأجاب بأن النظام خاسر على الأرض وكل ما يمتلكه للحفظ على التوازن هو السلاح الثقيل، متابعا «جنود الأسد يقصفوننا بآلاف القذائف عشوائيا ونحن نحسب حساب الطلقة الواحدة لذلك غالبا ما يكون الالتحام في مصلحتنا ومعظم خسائرنا سببها السلاح الثقيل وقصف الطائرات». نصف ساعة على خط الجبهة الأول أشار علينا أحد المقاتلين من الجيش الحر بضرورة الانصراف حيث يخبر قائده أنه رصد مدرعتين لقوات النظام تحاولان الإطباق على الثوار من الجهة المعاكسة لخط المواجهات .. يصيح جندي الاستطلاع: «الحاجز الشمالي يحاول التقدم» .. مباشرة يطالب الضابط غرفة العمليات بالإسناد .. أمرنا «الزوباني» بالمغادرة فورا كي لا نكون عبئا على المقاتلين الذين انشغلوا بتغطيتنا حتى خرجنا من محور المواجهة. الموت على «حاجز البنايات» تم نقلنا سريعا من الخط الأول إلى منطقة حاجز البنايات الذي كان يشكل نقطة تمركز استراتيجية لقوات النظام وسط بلدة «عتمان» .. كان المبنى جاثما على الأرض حيث يشير لنا أحد المقاتلين الثوار بأن عملية إسقاط هذا المبنى شكلت فارقا مهما في المعركة إذ كان حاجز البنايات المتوضع على أحلى نقطة في البلدة مركزا للقناصة والرشاشات الثقيلة من على ارتفاع خمس طوابق تشرف على جميع الجهات. يقول «مشهور الكناكري» قائد سرية المهام الخاصة إن الجيش الحر حاول حفر نفق بطول 180 مترا وصولا إلى الحاجز إلا أن النظام اكتشف العملية وقام بقصف النفق بطائرات الميغ حيث اضطر الجيش الحر وقتها إلى الاقتحام وأجبر جنود النظام على الصعود إلى الطوابق العليا لتقوم سرية الهندسة بالاختراق وتفخيخ المبنى وتدميره بالكامل ليسقط كل من بداخله من عناصر النظام قتلى وهم بالعشرات. يتابع «الكناكري» القول: حاجز البنايات كان مصدرا للموت .. كل يوم كان قناصته يقتلون المدنيين وحتى النساء والأطفال منهم بلا رحمة وتفجير المبنى كان مهما بالمعنى الاستراتيجي لكسب المرحلة الأولى من المعركة. كانت طريق العودة من خط المواجهة الأول في معركة بوابة درعا عملية عسكرية بحتة تولى فيها الثوار تأمين المعابر واختيار ما هو مناسب .. حملنا في الرحلة جزءا بسيطا من تفاصيل ما يجري على مدار الساعة .. لا مكان للعواطف في المعركة الكل متيقظ من حامل البندقية إلى رامي سلاح ال «أر . ب . ج» إلى قائد السرية فالكتبة وصولا إلى غرفة العمليات وليس المسعفون ولا المعنيون بإطعام الثوار أقل إحساسا بالمسؤولية وهي قصة أخرى سنرويها في الحلقة الثانية من «معركة الرصاصة والرغيف» داخل محافظة درعا.