هناك مؤشرات قوية تدل على أن مصر تتجه إلى الاستقرار وبدء مرحلة جديدة من العمل المضني لقيام الدولة القوية داخليا وإقليميا.. بعد أن كانت المؤشرات السابقة تعطي الانطباع بأن موجة «الفوضى الخلاقة» قد وصلت إليها وأن أوضاعها تتجه إلى نفس الحال الذي انتهت إليه دول أخرى سبقتها.. لكن هذه المؤشرات الإيجابية على أن مصر تسترد عافيتها وتتجه مجددا إلى تصدر مجموعتها العربية بقوة.. في عملية إعادة التوازن إلى المنطقة.. تعتمد - إلى حد كبير - على أمرين هامين هما: أولا: توفر إرادة كاملة لدى كل من السلطة والشعب المصري بكل فئاته ومستوياته لمعالجة الوضع بواقعية وهدوء بعيدا عن الإقصاء والتصنيفات وعملية الفرز الضارة للشعب. ثانيا: التركيز - بصورة أساسية - على إعادة بناء مصر من الداخل (أولا) وذلك بالالتفات إلى المشكلات التي أضعفت مصر.. وجعلتها عاجزة عن الاحتفاظ بمكانتها على المستويين الإقليمي والدولي، وهي مشكلات محلية بحتة بعضها فكري وثقافي وبعضها الآخر اقتصادي والبعض الثالث إداري وتنظيمي وهيكلي.. هذان الأمران لو تحققا بدرجة كافية.. وبرؤية استراتيجية بعيدة المدى في هذا الوقت بالذات، فإن البلاد مرشحة للخروج من الوضع الحالي كمرحلة أولى ثم إلى الانتقال بنجاح إلى مرحلة إعادة بناء الدولة من جديد وعلى أسس متينة وفي المدى الزمني المقرر للمرحلة الانتقالية. ولعل ما يساعد على التفكير بمثل هذه الصورة المتفائلة هو عوامل حاضرة ومشجعة تتمثل في الآتي: (1) وجود عقلية حاضرة ومستوعبة للموقف ولديها (الكاريزما) التي تمكنها من ضبط الأمور.. وإعداد البلاد لمرحلة تغيير تاريخية حقيقية.. وتلك هي شخصية القائد العام للقوات المسلحة الفريق أول (عبدالفتاح السيسي) لتوفر خصائص شخصية الزعيم فيه.. بصرف النظر عن كل ما يقال ويتردد عنه.. وما يطلب من القوات المسلحة المصرية للبقاء بعيدا عن المشهد العام وممارسة الدور السياسي الأول سواء في الوقت الراهن أو في المستقبل.. وهي مطالبة غير واقعية وغير منطقية.. لأن الوضع العام في البلاد يتطلب وجود شخصية «القائد» الذي يقود مرحلة معقدة تمر بها البلاد.. بتوازن.. وبقدرة فائقة على التجميع وتوحيد كافة القدرات والطاقات والإمكانات وتوجيهها الوجهة الصحيحة. وإن تطلب ذلك: أ/ مزيدا من التماسك والتوحد داخل المؤسسة العسكرية الضامنة لأمن وسلامة واستقرار البلاد. ب/ مزيدا من التعاون العضوي بين المؤسسة العسكرية والمؤسسة الأمنية ممثلة في منسوبي وزارة الداخلية.. والمخابرات العامة.. ج/ مزيدا من التعاون والانسجام بين المؤسستين السابقتين وبين مؤسسة الرئاسة.. ومؤسسة السلطة التنفيذية ممثلة في مجلس الوزراء وطاقمه الوزاري الحالي. د/ مزيدا من الدقة في اختيار أدوات الحكم في جميع مؤسسات السلطة.. بالتركيز على الكفاءة والنزاهة والقدرة على الخلق والابتكار.. وعمق الخبرة. ه/ مزيدا من التنظيم المحكم.. لمؤسسة الإعلام الرسمي والأهلي وإعادة صياغة رسالته الإعلامية في الاتجاه الذي يساعد على التوحد.. والعمل على إعادة توحيد اللحمة بين المصريين بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية والمذهبية أو الحزبية. و/ مزيدا من التلاحم بين كل هؤلاء، وبين مؤسستي الأزهر والكنيسة .. من جهة.. وبينهما وبين قوى الشعب المصري المختلفة لبناء فهم جديد يقوم على أساس العمل من أجل قيام الدولة المصرية القوية بعيدا عن تنازع الأدوار وتضارب المصالح وتداخل الصلاحيات. (2) تحقق نجاح فعلي ملموس على الأرض للخطط الأمنية التي طبقت خلال الأسبوعين الماضيين بنجاح وأدت إلى السيطرة على الموقف - إلى حد كبير - وعادت معها الحياة العامة إلى طبيعتها بالتدريج.. بالرغم من التضحيات التي رافقت تطبيق هذه الخطط في ظل واقع ملتهب.. وهي تضحيات مقبولة - بكل المقاييس - مقارنة بما كان متوقعا حدوثه سواء في ظل المواجهات العسكرية التي ترافقت مع فض اعتصامي ميدان رابعة العدوية وميدان النهضة في القاهرة وسائر الميادين في المحافظات المصرية الأخرى.. أو ما كان متوقعا أيضا في ظل احتمال استمرار تلك المظاهرات لمدى أطول.. وبما كان مقدرا لها أن تذهب إليه من حرب أهلية مؤكدة يكون وقودها الشعب بفئتيه.. فئة المناصرين لنظام الإخوان السابق وفئة المناصرين لتغييرات 30 يونيو 2013م. (3) تزايد ارتفاع وتيرة الأصوات العاقلة في المجتمع المصري وبين نخبه.. للمطالبة بأهمية وضرورة البدء في تبني مشروع وطني يعتمد الحل السياسي.. وهو التوجه الذي يجد في المجتمع المصري الآن من يعارضه بقوة ولا سيما في بعض الأحزاب السياسية.. أو وسائل الإعلام.. رغم أنه يعتبر الخيار الأمثل والوحيد.. للخروج من الأزمة برمتها ولإعادة ورسم مستقبل جديد لجمهورية مصر العربية بعيدا عن المضي في التفكير الخاطئ والموغل في سياسات العزل والإقصاء واستحواذ اللون أو الصوت الواحد على مقاليد السلطة.. وهو التوجه الذي عجل بنهاية الإخوان وخروجهم من دائرة الحكم بعد عام واحد فقط.. (4) انحسار موجات المواجهة في الشارع بين قوى المعارضة والسلطة.. سواء كانت تلك القوى إخوانية أو كانت متعاطفة معها.. أو كانت أطرافا ذات حسابات خاصة.. هدفها إثبات وجودها حتى تنال نصيبها من «الكعكة» في المستقبل. وسواء كان هذا الانحسار بسبب إيقاف قيادات التيار الإخواني البارزة وضعف مقدرة التنظيم على حشد أنصاره (كما حدث يوم أول أمس الجمعة).. أو كان بسبب تولد قناعة جديدة لدى الناس بأن استمرار تلك المواجهات سيؤدي إلى انهيار مصر.. وقتل المزيد من الأبرياء وبالتالي تضرر الكل .. أو كان ذلك نتيجة تبلور شخصية الدولة بصورة واضحة وملموسة في الشارع المصري.. من خلال السيطرة على المشهد العام.. وهو المظهر الذي غاب خلال السنتين والنصف السابقتين تماما.. وحضر مؤخرا وبقوة.. ولا سيما بعد أن وجدت مصر في بعض أشقائها من تستطيع أن تعتمد عليهم في مساعدتها على الخروج من محنتها الراهنة.. هذه العوامل الأربعة مجتمعة ساهمت في استتباب الوضع بصورة نسبية.. ولكنها كانت مشجعة لإثارة التفاؤل باتجاه سير الوضع نحو الانفراج.. لكن هذا الانفراج - كما قلت في البداية - يتوقف - إلى حد كبير - على مدى تحقق الإرادة الشعبية والرسمية لإعادة بناء مصر على أساس من التوحد والعمل من أجل قيام دولة قوية.. وكذلك بتوظيف قدرات الدولة وإمكاناتها التوظيف الأمثل لمعالجة أوضاع مصر المختلة من الداخل.. كما قلت في بداية هذا التحليل.. غير أن تحقق مستوى أفضل من الهدوء في الشارع يؤدي إلى إنهاء فرض حالة الطوارئ بانتهاء مهلة الشهر المعلنة..كفيل بأن يسمح باستمرار تنفيذ بقية الخطوات والإجراءات التي انطوت عليها خطة المستقبل وفي إطارها الزمني المحدد ودون تأخير.. لكن ذلك يظل مرهونا بمدى تحقق: (1) النجاح في اختيار مجموعة الخمسين المكلفة بمراجعة الدستور الذي فرغت منه مجموعة العشرة وقدمته للرئاسة.. والمقصود بالنجاح هنا.. ضمان حسن اختيار هذه المجموعة بما يحقق مبدأ تمثيل جميع القوى السياسية والدينية والحقوقية والأمنية والاجتماعية على أسس من الكفاءة المطلقة والخبرة الدستورية الكافية والإلمام بطبيعة المرحلة في ضوء حاجة البلاد إلى الالتفاف والتوحد ومنع الانقسام والتشرذم والبعد عن الأسباب المؤدية إلى الاختلاف وتلك مهمة صعبة للغاية.. ودقيقة.. وحساسة خلقتها صياغة دستور (2012م) الذي تجري الآن مراجعته وإعادة كتابته. وكما هو معروف .. فإن الاختلافات العميقة القائمة من الفئتين الكبيرتين في المجتمع المصري (فئة الجماعات الإسلامية على اختلاف انتماءاتها.. سواء الإخوانية أو الجهادية أو السلفية أو فئة الليبراليين بكل من يندرج تحتها من ألوان سياسية وفكرية وحقوقية واجتماعية أيضا.. هذه الاختلافات حول بعض مواد الدستور ولا سيما المادة الثانية منه.. يتوقف حسمها والحد منها والتوصل فيها إلى «توافق» لابد منه.. يتوقف - إلى حد كبير - على مدى توفق السلطة في اختيار الخمسين شخصية المكلفة بوضع الدستور في صيغته النهائية والذين سيتوجب عليهم أن يكونوا بعيدين عن عوامل الإرضاء.. أو الإقصاء.. أو التوجيه للنصوص على غير ما يجب أن توجه له.. وبما يلبي احتياج بلد يتوق إلى انصهار جميع قواه في بوتقة العمل الوطني بعيدا عن الانتماءات العقدية أو السياسية أو الأهواء الخاصة. (2) حسن أداء الحكومة في تنفيذ المهام المنوطة بها ولا سيما تلك المهام المرتبطة بترسيخ قواعد دولة المؤسسات وذلك بالانتهاء من وضع القوانين والتشريعات التي تكفل سلامة أداء هذه المؤسسات أو بحسن اختيار من يكلفون بالعمل فيها ضمن سياسة الشراكة الجماعية وعدم الإقصاء والبعد عن الانتقائية التي لا تقوم -عادة- على رعاية مصالح الدولة العليا. وقد أعطى اختيار أعضاء المجلس القومي الأعلى لحقوق الإنسان والمجلس الأعلى للصحافة.. انطباعا جيدا - إلى حد ما - في حسن الاختيار لمن يقودون مرحلة التصحيح والمراجعة وتنظيف الإدارة الحكومية من كل أسباب الترهل.. .. فضلا عن الحاجة إلى بذل جهود مضاعفة.. في رسم خطوط وسياسات واضحة لطبيعة عمل كل مؤسسة في إطار التكريس لحقوق المواطنة ورعاية المصالح العليا للوطن أولا وأخيرا. (3) الفراغ سريعا من وضع «ميثاق شرف إعلامي» يكفل حرية الإعلام (للجميع) ويحقق القواعد المهنية والمصداقية والحيدة وإعلاء المصلحة العليا للوطن (كما انطوت على ذلك خطة المستقبل المصرية) وذلك يتطلب تنظيف الساحة الإعلامية من التوجهات والأصوات والأقلام التي تواصل الضرب على الوتر الذي يضر بالوحدة الوطنية.. ويعمل على تعميق الفجوة بين أبناء الشعب الواحد.. ويقسم المجتمع إلى «فكر إخواني وفكر ليبرالي) في وقت تحتاج فيه البلاد إلى التخلص من سياسات الإقصاء.. والتصنيف على أسس مذهبية.. أو فكرية أو حزبية سياسية.. أو مصالح ورؤى ذاتية ضيقة.. وذلك لا يمكن أن يتأتى إلا إذا اختفت نبرة المطالبة بإبعاد هذه الفئة أو تلك من المشهد العام.. بدل التركيز على أهمية وضرورة العمل المشترك لإعادة بناء الثقة وصهر الأفكار والمواقف والتوجهات في بوتقة المصالحة الوطنية بين الجميع.. وتحريم وتجريم أي دعوة يشتم منها الترافع باسم الفئة.. أوالتوجه أو التكتل.. أو اللون الواحد.. (4) الشروع فورا.. في تنفيذ البند الوارد في «خطة المستقبل» والذي نص على «اتخاذ الإجراءات التنفيذية لتمكين ودمج الشباب في مؤسسات الدولة ليكون شريكا في القرار كمساعدين للوزراء والمحافظين ومواقع السلطة التنفيذية المختلفة.. وهو البند الذي لم يتم الأخذ به بعد حتى الآن.. لأسباب قد تكون وجيهة.. من بينها أن مدة الحكومة الانتقالية قصيرة.. ومهامها كثيرة ومعقدة.. وتحتاج إلى الخبرة العميقة لإرساء قواعد متينة في مرحلة إعادة التأسيس للدولة المصرية القوية.. وهو منطق قد يكون مقبولا ولكنه لابد أن لا يطول أكثر مما مضى حتى لا تشعر الطاقات الشابة التي ساهمت في تفجير ثورة 25 يناير 2011م.. بأنها خارج مكونات صناعة القرار في مختلف المواقع وهذا يتطلب وضع خطة استيعاب زمنية لهذه القدرات الشابة بالبدء فورا في عملية الاستقطاب القائم - أيضا - على حسن الاختيار بما يتفق مع طبيعة الاحتياج وضرورة دمج هذا الشباب في هيكل الدولة وفي جميع مؤسسات العمل الوطني المختلفة.. لإحداث نقلة نوعية في التفكير والتخطيط في إطار إعادة بناء الدولة القوية بروح وبأفكار وبعقلية الجيل المتطلع إلى صناعة مستقبل جديد لا مكان فيه لتراكمات التجربة المصرية الإدارية المحتاجة إلى التخلص من البيروقراطية واستغراق الوقت وضعف الإنتاجية.. وبعيدا عن عقلية سعادة «البيه» و«الباشا». إذا حدث هذا.. واتجه الجميع إلى الحلول السياسية جنبا إلى جنب استمرار الدولة في فرض هيبتها على الجميع.. بقوة النظام.. وفي إطار التقيد بمواد الدستور.. فإن مصر ستصبح قادرة على الخروج من الوضع الحالي المأزوم.. والانتقال إلى المرحلة الأهم.. (مرحلة إعادة بناء الدولة القوية). وتبدأ هذه المرحلة بتبني البند الأخير من «خطة المستقبل المصرية» المتمثل في «تشكيل لجنة عليا للمصالحة الوطنية من شخصيات تتمتع بمصداقية وقبول لدى جميع النخب الوطنية وتمثل مختلف التوجهات». لكن الأسئلة التي تبرز إثر هذا الكلام هي: ممن ستتشكل هذه اللجنة إذا كانت معظم القيادات الإخوانية في السجن؟ وما هي أجندة هذه المصالحة.. ومن الذي سيصوغها.. وما هي محاورها الأساسية؟ ومن هي «المرجعية» لهذا الحوار المفصلي الهام.. هل هي الحكومة.. أم الرئاسة .. أم الجيش .. أم هي كل هؤلاء.. وكيف يمكن صهر الجميع في بوتقة واحدة؟ هذه الأسئلة وغيرها.. تفترض أن قيام هذه اللجنة لابد أن يتم على هدف هو الجمع بين غايتين هما: شراكة جميع القوى الوطنية الفاعلة في هذا الحوار دون استبعاد أو استثناء لأحد تحت أي مبرر.. كهدف أساسي واستراتيجي وحيد. انصهار جميع القوى السياسية والمجتمعية في دولة النظام والقانون.. تحت سلطة الدولة ومؤسساتها الحالية. وتحقيقا لهاتين الغايتين فإنه لابد من: (1) اعتراف الإخوان بحق السلطة في المضي في سياسة تنفيذ خطة المستقبل.. وتأكيد رغبتهم في العمل من خلالها على صياغة هذا المستقبل على أسس من التوحد.. والاندماج في خدمة المصالح الوطنية وحقوق المواطنة أولا وأخيرا.. (2) فتح صفحة جديدة.. تقوم على أساس طي صفحة الماضي بكل ما حدث فيه.. وأدى إليه.. وترك الدولة تعالج آثار ما وقع بالتعاون الكامل والوافي بين الجميع.. وذلك يتطلب تجميد كل ما له علاقة بقضايا المواجهة أو الصدام.. تجاوبا مع مقتضيات المصلحة العليا للبلاد والتوجه نحو المستقبل بروح العمل المشترك والمسؤول. (3) توظيف جميع الطاقات للشروع في عملية إعادة البناء.. بإلغاء كل المظاهر المعطلة لعودة الحياة الطبيعية إلى البلاد.. وتوجيه كافة مؤسسات الدولة وقوى الشعب العاملة نحو الإنتاج والبناء وإصلاح الوضع الاقتصادي الذي تضرر كثيرا من الوضع المتوتر منذ 25 يناير 2011 وحتى الآن.. وبما يساعد على تفرغ الجميع لتأسيس الدولة المصرية القوية.. في ظل فرض سلطة الدولة في البلاد وبدء عملية الإنتاج في الدوران بالقوة وبالسرعة الكافيتين. صحيح أن التوصل إلى هكذا قرارات ليست مسألة سهلة.. لا سيما في ظل حالة التباعد الفكري بين مكونات المجتمع المصري.. ولا سيما في ضوء وجود تركة هائلة من الضحايا والمآسي التي أوصلت البلاد إليها حالة الاقتتال بين فصيل الإخوان وبين مؤسسات الدولة.. ولا سيما كذلك وأن مؤسسة القضاء قد بدأت عملية معقدة من جمع الأدلة.. وبدء التحقيقات تمهيدا لتقديم عدد كبير من القيادات الإخوانية للمحاكمة.. لكن الأكثر صحة هو.. أن مصر لا تستطيع أن تقوم على قدميها من جديد إذا استمرت وتيرة المواجهة على ما هي عليه الآن.. وكذلك عملية الإقصاء وعدم إشراك الخصوم في العملية السياسية بالكامل. وليس كافيا القول إن الشوارع المصرية قد خلت من المظاهرات.. وإن الهدوء بدأ يعود إلى الحياة العامة.. وإن سلطة الدولة باتت ضاربة في كل اتجاه.. لأن كل هذه المظاهر - وهي في معظمها صحيحة وإيجابية - قد لا تستمر طويلا إذا لم تتحقق خطوات عملية من هذا النوع على الأرض حتى قبل انتهاء الأحكام العرفية الحالية.. وإلغاء فرض حالة الطوارئ في البلاد.. المهم هو - كما قلت في البداية - أن تتوفر الإرادة للانتقال من مرحلة الحلول الأمنية إلى مرحلة العمل على تكريس الحلول السياسية وصولا إلى الدولة المصرية القوية بتعاون الجميع.. وأنا أعتقد أن الظروف الآن مهيأة بدرجة أو بأخرى.. لتحقيق هذا التقدم المطلوب بعيدا عن الشحن.. والانفعال.. والمكابرة واستمرار الخصومة بين طرفي المواجهة.. وشريطة أن يسقط كل منهما حسابات الأرباح والخسائر في جوانبها السياسية أو المادية أو الثقافية.. وأن يتجه الجميع إلى التوافق على هدف واحد ووحيد هو إعادة بناء مصر قوية.. لا مكان فيها لغير سلطة دولة قادرة على فرض هيبتها بالعدل.. والمساواة.. وفرض نصوص القانون وتحمل الجميع الكامل للمسؤولية. وليس من السهل أن يتحقق هذا إلا إذا أعاد كل طرف حساباته من جديد.. ووضع مصر.. ومصلحة مصر.. فوق كل اعتبار.. واعترف الإخوان بداية بالأمر الواقع والتزموا بالعمل في إطار خطة المستقبل وتم إطلاق سراح معتقليهم للبدء في حوار وطني مسؤول يتم الانتهاء منه في نطاق المدة المقررة لما تبقى من المدة للمرحلة الانتقالية المعلن عنها.. حتى يتفرغ الجميع للعمل السياسي المنظم وتمضي الدولة في إكمال بناء المؤسسات الدستورية.. وفقا للدستور الجديد بعد موافقة الشعب عليه ومن ثم إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية على أساسه.. استكمالا لمشروع إقامة الدولة المصرية القوية على أسس وطنية بحتة. وإذا كان هناك ما يجب على سائر القوى أن تعمل على تحقيقه أكثر من غيره لبناء مصر قوية فهو التركيز على مرحلة ما بعد اكتمال قيام مؤسسات الدولة المصرية الجديدة لتلبية احتياجات المواطن المصري الذي أنهكه الفقر ونقص الخدمات العلاجية.. وعدم تأمين الوظيفة الملائمة والدخل الكافي لأكثر من (70 %) من المواطنين.. وكل ذلك مرهون بتحقيق الانتعاش الاقتصادي المطلوب بحسن استخدام موارد البلاد وتوظيفها التوظيف الأمثل.. في ظل الاستقرار المطلوب التعجيل بتحقيقه. ومن المؤكد أن ذلك أيضا غير ممكن التحقيق إذا لم تتمكن الدولة المصرية في المرحلة الحالية من إعادة بناء مؤسسات الدولة وصهر كافة الطاقات والإمكانات والقوى في خدمة هذا الهدف الاستراتيجي بعد الخروج من الوضع الأمني والاقتصادي والاجتماعي المأزوم وبعد حصول التوافق بين الجميع على الصيغة المثلى لقيام مصر جديدة.