•• قبل أن أتناول الوضع في «مصر العربية» بعد ما حدث يوم أمس الأول الأربعاء.. بصدور بيان القوات المسلحة المصرية ومباركة القوى السياسية والدينية والثورية في البلاد.. أريد التوقف بعض الوقت عند العلاقات السعودية المصرية.. منذ ثورة 23 يوليو 1952م وحتى فترة حكم الرئيس السابق محمد مرسي وما نتوقعه لهذه العلاقات بعد حركة التغيير التي وقعت لنصل في النهاية الى قراءة لبرقية خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز لفخامة المستشار «عدلي منصور» رئيس المحكمة الدستورية المصرية المكلف رئيسا للجمهورية خلال الفترة الانتقالية الحساسة التي تعيشها مصر العربية. •• وإذا اردنا أن نكون أكثر دقة في متابعة مسار هذه العلاقات منذ الثورة المصرية عام 1952م.. وحتى اليوم.. وبالتالي فإن علينا ان نذكر بالوقائع التالية: • قابلت المملكة الثورة المصرية في عهد الملك سعود.. بتحفظ في البداية.. ثم لم تلبث أن فتحت صدرها لقادة هذه الثورة.. واستقبلت اللواء محمد نجيب الذي نصب منذ البداية رئيسا لمجلس قيادة الثورة لبعض الوقت.. واستثمرت مجيئه لأداء فريضة حج عام 1953م لتؤكد له انها مع مصر.. وشعب مصر.. قلبا وقالبا.. وبدأ البلدان مرحلة من التضامن.. والتفاهم.. خطط معها البلدان لمزيد من التعاون الاستراتيجي بينهما على المستوى الثنائي والاقليمي والدولي.. •• لكن تغير الوضع في مصر.. ومجيء جمال عبدالناصر للحكم.. بتوجهاته القومية ولغة الخطاب التحريضي التي انتهجها.. وتصنيفه المملكة آنذاك من الدول «الرجعية» ثم سحبه للعمالة المصرية الكبيرة من بلادنا في وقت كنا نعتمد عليها كثيرا في معظم شؤون حياتنا.. التعليمية.. والإدارية.. والمالية والنقدية.. هذه التصرفات دفعت المملكة إلى الانكماش.. والتوقف عن التعامل معه في الوقت الذي واصل النظام المصري شن حملة اعلامية قوية وقام بتحركات واسعة في كل اتجاه وعلى جميع الاصعدة لتشويه صورة المملكة ونظامها السياسي.. في إطار ما عرف بتوجه عبدالناصر نحو طرح مشروع «القومية العربية» وهو مشروع اكتمل لديه بالدخول في اليمن واستهداف المملكة بالطيران المصري المنطلق من الاراضي اليمنية.. ودخول البلدين في أزمة حادة تطورت الى حالة حرب بعد قيام الجمهورية اليمنية ومجيء عبدالله السلال إلى حكم اليمن.. وتواجد الجيش المصري وتأثيره القوي والواضح على القرار هناك.. •• وفي هذه الأثناء كان جلالة الملك فيصل بن عبدالعزيز يرحمه الله.. يدير الامور بحكمة.. وهدوء .. ويعمل على امتصاص العنفوان المصري.. ولغة الخطاب «الشرس» ضدنا.. على يد كوكبة من الاعلاميين في مقدمتهم المذيع «أحمد سعيد» عبر اذاعة صوت العرب.. ومحمد حسنين هيكل رئيس تحرير صحيفة «الأهرام».. •• فقد صور الاعلام المصري جولة الملك فيصل على أفريقيا عام 1966م في إطار ما عرف بمساعي المملكة لتحقيق «التضامن الإسلامي» على أنها تحرك دبلوماسي وسياسي مقصود به تعويق مد القومية العربية الذي تتبناه مصر عبدالناصر وتعمل بموجبه على تفجير الدول من الداخل عبر خلايا عديدة هنا وهناك.. •• وقد استمرت هذه المناخات السياسية الخانقة بين البلدين حتى عام 1976م عندما انعقدت قمة الخرطوم.. وتم الالتقاء فيها لأول مرة مواجهة بين جلالة الملك فيصل وفخامة الرئيس جمال عبدالناصر يرحمهما الله.. بجهود كبيرة قادها الزعيم السوداني آنذاك «اسماعيل الازهري».. أدت إلى تصالح البلدين بعد قطيعة، وتكللت هذه المصالحة بزيارة عبدالناصر لجدة وتوقيع البلدين اتفاقية تاريخية التي انتهت بمغادرة الجيش المصري لليمن.. وبدء مرحلة جديدة من التعاون بين البلدين.. على اسس من الاحترام المتبادل.. والاخوة الحقيقية الراسخة.. • نحن والسادات: •• وبعد وفاة عبدالناصر المفاجئة في أعقاب انعقاد القمة العربية الاستثنائية عام 1970م في القاهرة.. التي اعقبت الهزيمة العربية المرة في حرب عام (1967م).. جاء الرئيس محمد انور السادات إلى حكم مصر.. وكانت المملكة في مقدمة الدول التي فتحت قلبها وعقلها للقادم الجديد إلى السلطة لأنها كانت قد حزمت أمرها على تنمية وتطوير مستوى العلاقة بين البلدين إلى درجة وصفت بالمصيرية.. تعويضا عما اعتورها في السابق.. غير أن خطوة السادات وقيامه بزيارة القدس.. التي فاجأت بل وصدمت الجميع.. اعادت العلاقات بين البلدين إلى المربع رقم (صفر) شأننا في ذلك شأن معظم الدول العربية التي اوقفت التعاون معه لبعض الوقت.. حتى قبل توقيعه على اتفاقية «كامب ديفيد». •• ومع تطور الاحداث.. ومراجعة السادات لمواقفه وسياساته.. وبدئه مرحلة التشاور مع اشقائه بشأن التحضير لحرب (1973م).. فإن المملكة كانت في مقدمة العرب الذين مدوا اليد له.. واتخذوا إجراءات حازمة وقوية شملت قطاع البترول.. والاستثمار.. وشكل التعاون مع الدول الكبرى.. رغم خطورة القرار وتداعياته في ما بعد.. • نحن ومبارك: •• وبعد مقتل السادات ومجيء الرئيس محمد حسني مبارك للسلطة.. واصلت المملكة سياسة مد اليد لشقيقتها الكبرى مصر.. وفتحت له كل الأبواب وقدمت كل ما تستطيع أن تقدمه حتى تتجاوز مصر مخاطر مرحلة التغيير الفجائي المأساوية واستمرت العلاقات بين البلدين بصورة طبيعية.. وعلى نفس الاسس من الاحترام والتعاون المتبادلين.. ولكن في حدها الذي لم يرق إلى المستوى المثالي لأسباب تتعلق بطريقة عمل الرئاسة خلال الثلاثين عاما التي قضتها في السلطة.. وإن كان الملمح الأهم في العلاقة مع مصر قد برز من خلال دعمها لمواقف دول الخليج العربي لمواجهة صدام حسين وغزوه للكويت حيث شاركت مصر بقوة عسكرية ترأسها المشير محمد حسين طنطاوي إلى منصة القائد العام إلى القوات المسلحة المصرية. •• وعندما وقع ما وقع في 25/1/2011م وغادر مبارك السلطة.. قيل الكثير عن أن المملكة سعت إلى استقبال مبارك وعائلته فيها.. وهو الامر الذي لم تنفه ولم تعترف به أجهزة الدولة المعنية هنا.. لكننا كشعب كنا نشعر أن التغيير وإن حدث بإرادة الشعب المصري إلا أن أسلوب الانتقام وتصفية الحسابات ما كان يجب أن يحدث.. لأن اي تغيير في طبيعة الأنظمة السياسية كاف في حد ذاته للتوجه نحو المستقبل أكثر من التوقف عند الماضي والمبالغة في تصوير الامور وفق ما اتجهت اليه حتى الآن.. • ونحن ومرسي: •• ولأن العلاقات بين المملكة ومصر.. لم تعد ترتهن لطبيعة المتغيرات الحادة.. بقدر ما اصبحت خاضعة لقواعد الثبات والاستمرار والاستقرار في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز .. فإنها كانت المبادر إلى الإعلان بتاريخ 10/5/2012م عن «حزمة مساعدات» ضخمة للشقيقة الكبرى حتى قبل أن تظهر نتيجة الانتخابات الرئاسية.. وحتى قبل أن يصل الإخوان إلى السلطة.. •• حيث أعلن رئيس الحكومة كمال الجنزوري بتاريخ 19/أبريل/2012م «أن المملكة العربية السعودية التزمت بتقديم مساعدات لمصر تبلغ مليار دولار كوديعة لدى البنك المركزي لتدعيم الاحتياطي النقدي المصري.. اضافة إلى تقديم نصف مليار دولار من الصندوق السعودي لتمويل مشاريع تنموية في مجالات المياه والصرف الصحي وصوامع تخزين الغلال بالاضافة إلى (750) مليون دولار لتمويل الصادرات السعودية لمصر و(250) مليون دولار لتغطية صادرات خمسة مراكب وقود سيارات لمصر و(200) مليون دولار منحة لا ترد للمشاريع الصغيرة والمتوسطة». •• وعندما جاءت الانتخابات بالرئيس مرسي إلى سدة السلطة.. واستقبلت الرياض عددا كبيرا من الفعاليات السياسية والاعلامية والمجتمعية المصرية.. برئاسة الدكتور محمد سعد الكتاتني الذي كان يرأس مجلس الشعب المصري آنذاك، ومشاركة رئيس مجلس الشورى الدكتور أحمد فهمي، وكذلك رئيس حزب الوفد السيد البدوي وآخرين. وقابلهم الملك عبدالله بن عبدالعزيز سمعوا منه ما أثلج صدورهم جميعا.. وفي مقدمة ما سمعوا «أن مصر غالية علينا.. وأن شعب مصر والشعب السعودي شعب واحد.. وأن ما نقدمه لمصر في هذه الظروف ليس فضلا أو منة وإنما هو واجب نشعر بأن علينا ان نقدمه.. ونحن ابوابنا وقلوبنا مفتوحة لكل المصريين.. لأن مصر .. ومستقبل مصر.. وسعادة شعب مصر.. تعنينا كثيرا.. ونحن معكم بكل ما نستطيع ونملك». •• قال الملك عبدالله هذا الكلام للمصريين.. بكل الصدق الذي عرف عنه.. ويومها لم تجد وسائل الاعلام الاجنبية ما تقوله سوى أنها ابرزت على صدر نشراتها الاخبارية عناوين من نوع «السعودية تدعم الاخوان في حكم مصر».. •• وسواء كانت هذه العناوين دقيقة أو لم تكن.. فإن الثابت هو أن المملكة كانت بهذا الدعم سواء في جانبه السياسي أو المادي.. تدعم مسيرة مصر.. وشعب مصر نحو الاستقرار.. تجنيبا لها ولهم عن حالة التوتر التي تشهدها المنطقة وضمانا لتحقيق الحد المطلوب من التفاهم بين العرب بعد ما شهدته المنطقة من اضطرابات.. •• ورغم ما قيل وتردد بعد ذلك عن توقف أو تعثر هذا العون السعودي لمصر.. وربطه بما اسمته بعض الدوائر بالجمود في العلاقات بين البلدين.. الا أن المملكة لم تفكر لحظة في إيقاف هذا الدعم الذي أعلنت عنه طواعية.. وأرادت بداية أن تؤكد أنها لا تقدمه لنظام بعينه بقدر ما تعطيه لبلد وشعب يجب الوقوف إلى جانبهما في هذا الوقت بالذات.. •• وجاء التأكيد السعودي على هذه المبادئ.. بالتوقيع -في مصر- على مذكرة تفاهم قطاعية بما قيمته (500) مليون دولار امريكي موزعة على مختلف القطاعات في الاقتصاد المصري.. وكذلك التوقيع على مذكرة تفاهم اخرى بشأن وديعة بلغت مليار دولار امريكي في البنك المركزي المصري.. بالاضافة إلى استكمال طلب تمويل صادرات بوتاجاز من المملكة إلى مصر بمبلغ (250) مليون دولار امريكي..جنبا إلى جنب استكمال ضوابط وإجراءات تمويل مشاريع صغيرة ومتوسطة بمبلغ (200) مليون دولار امريكي. •• يومها قال وزير المالية المصري (مختار السعيد) وتحديدا في تصريحات له يوم الخميس 10/مايو/2012م «إن المملكة في طليعة الدول العربية التي تواصل دعمها لمصر في الظروف والأحوال كافة».. وقال «إن بصمة خادم الحرمين الشريفين «الخيرة» تبرهن على أن سياسة المملكة تسير بخطى ثابتة نحو وحدة الصف العربي وتفويت الفرصة على المشككين.. وبالتالي فإن القيادة السعودية لم تتأخر يوما عن تقديم المساعدات ودفع عجلة الاقتصاد المصري». •• ورغم كل ذلك.. فإن بعض التصريحات لمسؤولين مصريين كبار، وتسريبات اعلامية وضح أنها موجهة، استمرت تصدر عن القاهرة وتشكك في مصداقية هذه المساعدات وجديتها.. •• ليس هذا فحسب.. بل إن المملكة وسفارة المملكة وقيادتها وشعبها.. تعرضت بعد ذلك لإساءات متكررة سواء على سفارتنا بالقاهرة.. أو عبر وسائل اعلام معينة.. وشارك فيها ايضا رئيس وزراء مصر آنذاك «كمال الجنزوري» نفسه.. الذي قال «إن وعود المساعدات المالية لمصر سواء من الدول العربية أو الغربية.. لم يتحقق منها شيء».. •• عندها رد الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية على تلك التصريحات مفندا.. وموضحا بعض الحقائق وبالتواريخ قائلا «إن المملكة بادرت بتحويل مبلغ (500) مليون دولار منحة لدعم الميزانية المصرية، في البنك المصري بتاريخ 1432/6/13ه»، وقال أيضا «إن المملكة بعثت وفدا من الصندوق السعودي للتنمية لمصر الشقيقة لبحث العناصر التنموية من هذه الحزمة التي تبلغ (1.450) مليار دولار.. وإنه جرى التوقيع على مذكرة تفاهم مع وزارة التعاون الدولي المصرية.. على أن يحدد الجانب المصري المشاريع ذات الاولوية لدراستها من قبل الصندوق وذلك لاستكمال اجراءات التنفيذ.. الا أن الجانب المصري لم يتمكن من ذلك لأسباب داخلية تم ايضاحها في خطاب تلقاه الصندوق.. وبدلا من ذلك اقترح الجانب المصري -يقول الأمير سعود الفيصل- توقيع مذكرة بالقطاعات ذات الاولوية وليس بالمشاريع ووافق الصندوق مباشرة مع طلب حصول وزارة التعاون الدولي المصرية على الموافقات اللازمة من الجهات المصرية المختصة».. وتابع الأمير سعود الفيصل رده قائلا «إن وزير المالية في المملكة خاطب نظيره المصري بتاريخ 1432/9/9ه، فيما يخص ما تبقى من حزمة المساعدات المتعلقة بالوديعة في البنك المركزي وشراء سندات الخزينة المصرية.. ومذكرا إياه بأن المملكة قدمت ايضا لبلاده مساعدات عينية تمثلت في تأمين (48.000) طن متري من غاز البترول المسال ولم نتلق ردا على كل ذلك». •• فعلت المملكة كل هذا دون النظر إلى من يجلسون على كرسي الرئاسة.. ولا ما هو لونهم الفكري.. أو هويتهم السياسية.. أو انتماؤهم الحزبي لأن ذلك شأن لا يعنينا وإنما الذي يعنينا هو الشعب المصري.. كما يعنينا أن تقف مصر على قدميها.. وأن تتمكن من النهوض بقوة.. وتستأنف ادوارها الطبيعية في منظومتها العربية.. وتساهم معنا ومع بقية الاشقاء في تجنيب المنطقة مغبة اي تداعيات امنية اخرى.. •• غير أن ما حدث بعد ذلك.. كان مغايرا -تماما- لكل ما تمنينا ورجونا.. حيث دخلت مصر مرحلة من التعقيدات غير المسبوقة، سواء على مستوى الداخل المصري.. إن بالنسبة للوضع الامني.. أو الوضع الاقتصادي.. أو السياسي.. أو على مستوى التعامل مع اشقائها العرب ومنهم دول الخليج العربي الست.. •• فقد تعرضت الاستثمارات السعودية في مصر.. لما يشبه المصادرة ووضع اليد.. وتتابعت الحملات الاعلامية الظالمة علينا بأكثر من صورة وتم تأجيج المشاعر ضدنا ولا سيما في موسمي الحج والعمرة دون مبررات موضوعية.. وعرضت بعض الاوساط والدوائر المصرية المملكة وبعض شقيقاتها الخليجية لاتهامات وتلميحات بلغت حد الاتهام بممارسة الضغط على النظام المصري لتغيير سياساته وتوجهاته الخارجية.. تجاه الوضع في سوريا.. أو نحو معادلة التعاون الإقليمي مع ايران.. مع أننا نأينا بأنفسنا عن الخوض معهم في هذا الشأن أو ذاك.. حتى بعد أن صدرت عدة اشارات ومبادرات من الحكومة المصرية لمد اليد إلى طهران.. وبدء مرحلة من الغزل.. والتعبير عن الرغبة في تطوير العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.. وتكللت تلك التصرفات بزيارة «مرسي» لطهران وحضوره قمة دول عدم الانحياز المنعقدة هناك بتاريخ 30/8/2012م ثم بلغت ذروتها بفتح الابواب والاذرعة واستقبال الرئيس الايراني السابق (محمود أحمدي نجاد) في القاهرة كما يستقبل الفاتحون.. وتمكينه من الاتصال ببعض القوى السياسية والمجتمعية -بمعرفة السلطة- وقيامه بزيارة الازهر ومشيخته وتجوله في بعض شوارعها ومواقعها التاريخية كما وزف إلى بلاده في رحلة العودة بصورة «حميمية» غير مسبوقة.. وذلك كله لم يعننا -لا من قريب أو بعيد- بقدر ما عنى الشعب المصري نفسه.. واستفز فئات كبيرة منه.. ودفعها الى طرح اسئلة جوهرية وموضوعية على الرئاسة المصرية عن الدوافع الحقيقية لتوجهات بلادهم إلى إيران بقوة وابتعادها التدريجي عن منظومتها العربية.. •• وبدلا من ان تتفهم السلطة المصرية حقيقة مخاوف الشعب ونخبه من تلك التوجهات.. لاحظ الجميع أن الرئيس مرسي كان حريصا على ارسال رسائل مباشرة إلى بعض اشقائه العرب.. ودول الخليج العربي في مقدمتها .. هي اقرب إلى التهديد والوعيد منها إلى التعبير عن القلق مما اسماه تدخل بعض هذه الدول في الشؤون المصرية حتى أنه تحدث أكثر من مرة موجها كلامه إلى تلك الدول قائلا «هناك ثلاث دول عربية تتدخل في شؤوننا.. ونحن سنقطع اليد التي تفعل هذا» وأخذت العواصم العربية تسأل بعضها بعضا عن تلك الدول التي كان مرسي يشكو منها.. وعن مصلحتها في التدخل في شؤون بلد شقيق وكبير هو أحوج إلى العون منه إلى التعكير عليه.. ولأي هدف يحدث هذا! •• سألت دول الخليج نفسها كثيرا هذا السؤال ولا سيما في اللقاءات الثنائية أو الجماعية التي تمت بين قياداتها ومسؤوليها.. وحاولت أن تستقصي -بطرقها الخاصة- اسباب ودوافع ومبررات تلك الحملات ولكنها لم تجد لذلك سوى تفسير واحد هو: محاولة مرسي.. إلقاء تبعات فشل الحكومات المتعاقبة التي شكلها في حل مشاكل مصر على الآخرين.. بدلا من أن يبحث في الأسباب الداخلية الحقيقية التي دفعت البلاد إلى تلك الحالة من التخبط والارتباك.. واقتربت بالاقتصاد المصري من حالة الانهيار.. نتيجة سياسات النظام التي اغلقت البلاد وطردت الاستثمارات منها.. وأوقفت تدفق السياحة اليها.. وأوصلت الاحتياطي النقدي المصري إلى حافة الهاوية.. جنبا إلى جنب حالة التشوش السياسي التي اوقعت الدبلوماسية المصرية في «حالة تلبك» غير مسبوقة.. تأرجحت بسببها مكانة مصر.. واهتزت صورتها ليس فقط على مستوى الأقليم وإنما على المستوى الدولي ايضا. • غياب البوصلة.. واضطراب الرؤية: •• تلك هي حالة مصر التي وصلت اليها في الفترة الأخيرة وبالذات في ظل عجز الحكومات المتعاقبة عن التعامل «المحترف» مع الأزمة بتداعياتها الاقتصادية والامنية.. بحيث بدت فقيرة في ظل غياب الرؤية لواقع الحال.. والانطلاق إلى رسم خطوط المستقبل بوضوح تام.. بدليل عجز الاجهزة المكلفة بحل مشاكل البلاد الاقتصادية عن تقديم برامج واضحة ومحددة ومدروسة للدول العربية والمنظمات الدولية التي بادرت إلى الحديث عن رغبتها الشديدة في تقديم مساعدات إلى مصر.. مما جعل تلك الدول والمنظمات تتردد كثيرا في مواصلة الدعم جراء غموض وجهة وأولويات إنفاقه لأسباب ترتبط بغياب بوصلة المستقبل لدى السلطة او لاستمرار خلايا الفساد.. وعدم توفر آليات وأدوات الرقابة الكافية لمتابعة أوجه صرف تلك المساعدات وتوجيهها إلى دعم الاقتصاد وتنمية البلاد.. •• وفي كل الأحوال.. فإن الدول المانحة.. عربية كانت أو دولية.. لم تتوقف عن دفع ما التزمت به لدعم مصر.. الا بعد أن عجزت الادارة المصرية عن السيطرة على كامل الوضع.. وتوقفت أوجه الحياة المصرية في ظل استمرار الاخطاء والممارسات والتخبطات.. في ادارة شؤون الدولة.. ولم تتمكن الحكومات المتعاقبة من الاستفادة من كل ما دفع لها.. لتحقيق الحد الأدنى من الانتعاش في البلاد.. وتحسين وضع الاقتصاد.. •• مرسي.. في قمة الدوحة: •• ورغم كل ذلك.. فإن المملكة -كما كشف سمو وزير الخارجية- ربما كانت الدولة الوحيدة التي لم تتوقف لحظة عن تقديم كل ما التزمت به لادارة الرئيس مرسي السابقة.. رغم استمرار المواقف والتسريبات الاعلامية غير الودية ضد دول الخليج ونحن منها.. •• وجاءت القمة العربية التي عقدت في دولة قطر يوم 26/3/2013م وحضرها الرئيس المصري السابق «محمد مرسي» وكانت قمة مشحونة بالتوتر.. لسببين اثنين هما: عدم تحقق الاجماع العربي المطلوب لدعم المعارضة السورية بمواجهة النظام السوري الجائر.. وبالذات في ظل موقف كل من العراق المتضامن مع طهران في مواجهة الشعب السوري.. وكذلك لبنان الذي كانت جماعة حزب الله تقود خطواته يوما بعد يوم إلى الوقوف «علانية» مع هذا النظام وضد إرادة الشعب خدمة لمصالح إيران أيضا.. أما السبب الثاني الذي قاد تلك القمة إلى درجة أعلى من التوتر السياسي والنفسي وحولها إلى حرب كلامية.. فهو خطاب (محمد مرسي) الذي تضمن هجوما عنيفا على بعض الدول العربية التي قال إنها تحارب نظامه.. وتتدخل في شؤون بلاده.. وفي اختياره لغة تهديدية حادة عندما قال انه سيقطع اصبع دولتين أو ثلاث من دول المنطقة التي تقف ضده، وكان الرجل يومها في اقصى درجات الانفعال والتوتر.. ودخل في تفاصيل بعيدة كل البعد عن جدول اعمال المؤتمر وموضوعاته المحددة.. وتسبب في اشاعة روح التوتر في ارجاء القمة.. •• والأغرب من كل هذا.. أن «مرسي» وبعد أن انهى خطابه بحملة التهديد والوعيد تلك.. اصغى باهتمام لخطابين آخرين القاهما أمير الكويت سمو الشيخ (صباح الاحمد الصباح) وفخامة الرئيس السوداني (عمر البشير)، وعندما جاء دور خطاب الملك عبدالله بن عبدالعزيز وألقاه صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز في ايجاز تام.. نهض (مرسي) من مكانه أثناء الخطاب واتجه إلى أمير قطر رئيس الجلسة (آنذاك) سمو الشيخ (حمد آل خليفة) يعانقه بحرارة ويودعه.. وغادر بعدها الجلسة يتبعه الوفد المرافق له.. •• وبصرف النظر عن أسباب ودوافع خروج مرسي من القاعة في هذا الوقت بالذات.. فإن أبسط قواعد اللقاءات والمؤتمرات .. البروتوكولية كانت تفرض حدا أدنى من اللياقة.. لاختيار الوقت والطريقة.. والاسلوب الذي ينسحب فيه رؤساء الوفود.. كما فعل آخرون.. مع الالتزام بالقواعد المنظمة لمثل هذا التعاطي بين رؤساء وممثلي الدول في مثل هذه الحالات.. •• تلك هي صورة مصر.. التي كان عليها المشهد العام.. وهي صورة مغايرة للصورة الذهنية التي تحملها الدول والشعوب عن الدولة العربية والعريقة والشقيقة مصر.. وقادتها على مر التاريخ.. لكن الوضع الذي كان سائدا في الفترة الماضية كان وضعا استثنائيا بكل المقاييس.. •• هذا الوضع جعلنا نحن العرب.. اشقاء مصر العربية التي نعتبرها واجهة العمل العربي الوحدوي.. ونتعامل معها بكل احترام وتقدير جعلنا في حالة من القلق الشديد عليها.. وعلى مستقبل شعبها.. لا سيما بعد أن بلغت الحالة الامنية مداها.. وأوصلت الشعب المصري إلى حالة المواجهة التي أوشكت أن تدخله في حرب أهلية مريعة.. بدت مؤشراتها في الآونة الأخيرة في ظل تزايد عدد القتلى والضحايا الابرياء الذين يسقطون في الميادين ويتعرضون للموت.. بسبب حالة الشحن والانقسام التي وصل إليها الجميع.. وكذلك الحالة الاقتصادية التي افرغت الخزينة من الاحتياطيات الكافية واقتربت بالبلاد من حالة الانهيار.. • التهنئة لماذا؟ •• وعندما تنفست مصر الصعداء قليلا ولا سيما بعد أن اصدرت القوات المسلحة المصرية بيانها الاول الذي امهلت فيه الفرقاء (السلطة والشعب المنتشر في الميادين العامة بكل توجهاته وانتماءاته الاخوانية أو الليبرالية) مدة (48) ساعة للتوصل إلى حلول عملية للأزمة.. وتحدثت عن «خارطة طريق نحو المستقبل» تشرف على تنفيذها وتحقيق أهدافها.. عندما صدر هذا البيان بدأ الجميع يستجمعون قواهم.. بل ويطمئنون إلى أن مصر.. قد قررت وضع حد للكارثة التي كانت وشيكة الوقوع.. •• وبدأت الدول والشعوب ولا سيما العربية منها بعد بيان القوات المسلحة المصرية ترتب أوضاعها لسماع ورؤية ما يطمئن على مستقبل مصر.. والمصريين.. بعد أن وضع الجميع ايديهم على قلوبهم.. تحسبا من وقوع المواجهة بين شعب محمد مرسى.. وبقية فئات الشعب المصري.. الذي قسمته اخطاء النظام رغم توحده على مدى التاريخ الطويل.. •• وعندما صعد الفريق أول عبدالفتاح السيسي، القائد العام للقوات المسلحة المصرية وزير الدفاع إلى المنصة ليلقي بيان مصر التاريخي وكان محاطا بمعظم الاطياف والمرجعيات الدينية والسياسية والامنية في البلاد.. عندها شعر الجميع بأن مصر قد استردت عافيتها.. وأن خطر الاقتتال بين المصريين قد توقف.. أو هو بسبيل التوقف بعد أن تصاعدت مؤشراته بعد حديث الرئيس السابق محمد مرسى قبلها بليلة واحدة.. والذي دعا فيه المصريين إلى الدخول في مواجهة مع القوات المسلحة.. بل وإلى الحرب بين الاعوان والخصوم.. •• وطمأن الجميع أن «العسكر» قد اتخذوا كل الخطوات الدستورية الصحيحة لإبعاد بلادهم عن اجواء الحرب الاهلية.. وبالذات حين وضح مدى مصداقية القوات المسلحة في انها أدت واجبها.. وحمت البلاد من مغبة الحرب الاهلية.. وأن من سوف يحكم مصر منذ تلك اللحظة هو رئيس المحكمة الدستورية.. وأن الجميع مدنيين وعسكريين.. علماء.. وساسة.. مفكرين.. ومثقفين.. مسلمين ومسيحيين.. سيعملون معا من أجل اعادة بناء مصر.. وأن طريق العمل كان من الوضوح.. وأن الادوات والوسائل -كلها- كانت قانونية ونظامية ودستورية.. وأن ما حدث كان يهدف إلى منع الانهيار الذي اوشكت أن تدخله البلاد وليس انقلابا عسكريا.. تم تدبيره بليل.. •• عندها.. تابعت كل عواصم الدنيا ونحن معها هذا المشهد الحضاري الذي بدأ بخروج شعب متحضر إلى الميادين العامة للتعبير عن ارادته.. وأن القوات المسلحة والازهر الشريف والكنيسة والسلفيين والاحزاب الوطنية قد شاركت في رسم خطوط المستقبل.. عندها تحركت الرياض وقد اطمأن قلب كل واحد في هذه البلاد على مصر ومستقبل مصر.. لتجيء برقية الملك عبدالله بالصيغة التي جسدت حالة الطمأنينة التي غمرت قلوبنا.. •• تقول البرقية الموجهة لفخامة المستشار عدلي منصور رئيس المحكمة الدستورية الذي كلف بإدارة شؤون البلاد في هذا الظرف التاريخي الهام: «باسم شعب المملكة العربية السعودية» وفي هذا استهلال كان خادم الحرمين الشريفين حريصا باستمرار على ان يبدأ به مخاطباته في مثل هذه المواقف.. و«بالإصالة عن نفسي» باعتباره ولي الامر الذي يعبر عنا جميعا.. «نهنئكم بتولي قيادة مصر في هذه المرحلة الحرجة من تاريخها. وإننا إذ نفعل ذلك لندعو الله أن يعينكم على تحمل المسؤولية الملقاة على عاتقكم لتحقيق آمال شعبنا الشقيق في جمهورية مصر العربية (تأملوا عبارة شعبنا الشقيق وما تنطوي عليه من اخوة وترابط مصير وتوحد شعوب هذه الامة ثقافة ومصيرا) وفي ذات الوقت نشد على ايدي رجال القوات المسلحة كافة ممثلة في شخص الفريق اول عبدالفتاح السيسي الذين اخرجوا مصر في هذه المرحلة من نفق الله يعلم ابعاده وتداعياته». وهنا نتوقف عند هذا الجزء من البرقية ونسأل: •• هل عبرت البرقية بهذا النص عن حالة عدم الرضى العام عن النظام السابق.. او أنها كشفت عن حالة الارتياح لما سيؤدي اليه التغيير للوضع من تأمين سلامة مصر.. وإبعاد شعبها عن الوقوع في هاوية الحرب الأهلية بعد أن سقط خلال ليلة واحدة (16) شهيدا.. وأكثر من (250) جريحا.. نتيجة تأجيج مشاعرهم وتأليبهم ضد بعضهم البعض؟! •• اتبرع بالسؤال لأنني اعرف ان طوية حكام هذه البلاد وثقافة انسان هذه البلاد وتفكير النظام السياسي في هذه البلاد وتاريخه.. لم تقم في يوم من الايام على أساس التشفي وتصفية الحسابات مع الآخرين.. بل كنا باستمرار متسامحين حتى مع اعدى أعدائنا.. فكيف مع إخوة اختلفوا معنا.. او بدر منهم ما يسيء الينا.. أو يؤثر على مشاعرنا..؟! •• لذلك اقول: ان الشعور بالسعادة والفرحة التي انطوت عليها برقية الملك كان بسبب انفراج الغمة وزوال المخاوف من احتمال سقوط مصر في المجهول بعد دخولها نفق الاحتراب بين ابناء الشعب الواحد.. وهو الوضع الذي لو حدث لا سمح الله فإنه لن يشكل كارثة لمصر وبين ابناء مصر فحسب وإنما ستكون آثاره وأبعاده وتداعياته شاملة للجميع وكان يمكن ان يؤدي الى انهيار المنطقة بكاملها بعد أن تكون لوثة الحرب الاهلية قد اصابت اكبر دولة في المنطقة في الصميم.. •• فرح الملك.. ومعه شعب المملكة العربية السعودية.. وشعوب الخليج بل والشعوب العربية والاسلامية قاطبة لأن مصر.. وشعب مصر نجوا من السقوط في هاوية لا حياة بعدها والحمد لله رب العالمين. •• وكما قال الملك في برقيته: «لكنها الحكمة والتعقل التي حفظت لكل الاطراف حقها في العملية السياسية» وتلك هي الحقيقة.. لأن ما افتقدته مصر.. في الآونة الأخيرة.. وما كانت تحتاج اليه هو «التوحد» وشعور الجميع بتساويهم في الحقوق.. وليس في هيمنة فئة.. أو فصيل.. أو طرف من الأطراف وإقصاء الآخرين.. وتهميشهم.. •• وكما قلت في البداية.. •• فإن أهمية الانجاز الذي تحقق في مصر في نظر المملكة.. ومن ورائها العرب جميعا.. هو في أن «شهوة» الحكم لم تكن السبب في تحمل القوات المسلحة المصرية تغيير الوضع.. وإنما كان السبب الاساس فيه هو الخوف على مصر وشعب مصر.. وتحمل المسؤولية بكل تبعاتها.. في لحظة تاريخية فارقة.. أحاطتها ارادة الله بالعون والتوفيق.. وسوف تجد من الجميع كل ما يجب عليهم عمله من أجل مصر.. وكل شعب مصر.