رحل الفنان العراقي الكبير طالب القرة غولي، يوم الخميس الماضي السادس عشر من شهر مايو، بعد حياة حافلة بالإنجازات اللحنية الرائعة التي واكبت فترة زخم إبداعي شعبي عراقي أواخر الستينات والسبعينات من القرن الماضي. قبل حوالي ست أو سبع سنوات، أخرج طالب القرة غولي وإلياس خضر أسطوانة بعنوان (لقاء السنين) احتوت على أعمال مميزة أبدعاها معا كانت تستعيد تجارب متنوعة خلال سنين طويلة وبتوزيع حديث برز في صفاء دور واضح لبعض الآلات، كان ابن إلياس خضر مشتركا في عزف إحدى الآلات الموسيقية على ما أذكر، وخلال بعض مقدمات تلك الأغاني كان كل من طالب القرة غولي وإلياس خضر يستعيدان بعض المواقف وكيف سهرا الليالي في إعادة تجريب المقاطع وخلافه وأهم تلك الأغاني «عزاز» التي انتشرت بشكل رهيب وقت تسجيلها، ثم «تعال لحبك انه اشتاق».. التي تخللها مقطع ساحر: لعيونك يهزني الشوق وأضوي شموع للملقى يظل طيفك يناغيني وأصيح بحيل وبحرقة (...) يا لخدك ورد جنة طالب القرة غولي كان ينبوع ألحان يتدفق بعذوبة وغزارة وتنوع فريد، وقد تألقت ألحانه أيضا في الصوت الأسطوري للفنان حسين نعمة الذي غنى من ألحانه أغنية فرد عود، والتي تحمل مضامين إنسانية وعاطفية كبيرة: فرد عود يالشاتل العودين.. خضر يا ولفي (....) يا دنيا كبر الوكت حمل عشقنا ورود. إنها حقا فترة ذهبية تلك الفترة التي برز خلالها ثلاثة ملحنين كبار طالب القرة غولي وكوكب حمزة ومحمد جواد أموري وأمام هؤلاء الثلاثة برزت مواهب وأصوات أخاذة كانت تتنازع هؤلاء الملحنين، وهم: حسين نعمة، إلياس خضر، سعدون جابر، فاضل عواد و غيرهم، ناهيك عن تدفق الشعر العراقي الذي لا يتوقف يمد الأغنية بجمر القصائد! تلك الفترة كانت الأغاني الجديدة تتلاقفها الأيدي ويتناهبها البحث عن الكاسيتات بشكل رهيب، فمن منا لا يتذكر أغنية سعدون جابر «حسبالي عدينا الوفا» ألحان طالب القرة غلي وأغنيته الخالدة يا طيور الطايرة من ألحان كوكب حمزة، وفي تلك الفترة أيضا غنى إلياس خضر رائعته «البنفسج» و«اسحن قليبي سحن» من ألحان طالب القرة غولي، وفي جانب آخر غنى حسين نعمة روائعه: «يا حريمه» «رديت» «يا نجمة» من ألحان المبدع محمد جواد أموري! إذا كانت تلك الفترة زاخرة بالملحنين المتمكنين الرائعين، وزاخرة أيضا بمواهب صوتية متألقة وتلقائية جميلة بدون أي تكلف في الغناء، وقد أدت هذه الظروف قبل أن تدخل في التلحين والتسجيل التقنيات الحديثة والاستديوهات الخاصة ومسألة الربح من الأسطوانات والحفلات والقنوات الخاصة، كما قال الراحل طالب القرة غولي في مقابلته الأخيرة، كانت تلك الفترة تعتمد على فرقة الإذاعة الموسيقية ولا يقصد منها الربح المادي في الدرجة الأولى كما هو الحال اليوم. في السادس من هذا الشهر، أذيع لقاء تلفزيوني في برنامج «أطراف الحديث» في فضائية الشرقية، وهو برنامج ناجح وينتقي الفنانين والمبدعين بعناية، التقى الراحل طالب القرة غولي، وأجمل ما قاله أنه خلال حياته كلها لم يتلق أي مقابل لقاء ألحانه مباشرة أو يشترط مبلغا محددا ليقوم بالتلحين، وهذه شهادة تنم عن فنان أصيل يعرف قيمة ما تتركه أنامله في نفوس الأجيال، فكلنا سنرحل عن هذه الدنيا يوما ما، لكن ما نتركه هو الذي يذكرنا الناس به، فهل من يتعظ!؟