تجدهم في كل مكان أينما اتجهت، يتجاوزون الزمن الذي أمضوه في هذه الحياة، يصرون على التواجد والعمل رغم خريف العمر والتعب الذي يكسو ملامحهم ويرهق أجسادهم المتعبة، فالحياة بالنسبة لهم هي السير في العمل حتى آخر اللحظات، لأنهم لا يريدون أن يكونوا عالة على أسرهم بانتظار (مصروف) شهري أو مبلغ مالي يمنح لهم بين الحين والآخر، يعملون لاعتقادهم بطاقاتهم الكامنة المتجددة التي تسكنهم فيحاولون بشتى الوسائل لاستنهاضها لتسعفهم للقيام بأعمالهم المختلفة، فيما يرى آخرون أن الجلسة المنزلية قاتلة جداً بالنسبة لأعمارهم، ويصفونها بأنها بوابة مشرعة للتعب والمرض والاكتئاب، لذا قرروا عدم الاستسلام لمثل هذه الحياة البيتوتية، فانطلقوا ليعملوا .. وينسوا كل شيء. (عكاظ الأسبوعية) التقت بعدد من كبار السن لتعرف قصصهم، كانت البداية مع العم إبراهيم درهيم، وجدناه يحمل العديد من (الكراتين) حاولنا مساعدته فرفض، وبابتسامة، قال لنا: هل تظنون أني عجوز، ابتعدوا، أنا قادر على حمل أي واحد منكم، أخبرنا العم إبراهيم أنه سعيد جداً في عمله ويحمد الله على الصحة والعافية، وأنه لا يخجل من حمل أي بيعة أو الشراء والبيع ما كان لديه نقود. ويستطرد العم إبراهيم قائلاً: أنا أعمل في هذا المجال يومياً بعد صلاة الفجر حتى الظهيرة، الحاجة تحتاج إلى العمل، والعمل ليس عيباً، فإذا قررت الجلوس في منزلي سأموت، أعرف نفسي جيداً، أولادي لا يعرفون بأنني أتعب هكذا، لو عرفوا لمنعوني، إلا أنني أرى أن الحركة مفيدة لي من هو في سني، فقد تجاوزت 60 عاماً بكثير. وأعمل في هذا العمل منذ عشرين عاماً، أبحث أن رزقي اليومي، لأن الحياة صعبة للغاية، وتحتاج لمزيد من العمل لكي تكون كريمة، ولكي لا نحتاج لأحد من البشر. ويفتح العم إبراهيم درهيم قلبه لنا ويقول: حين كنت شاباً كنت أعمل أكثر وكانت لدي (فلوس)، ولكنني لم أستطع تأمين حياتي بشكل أفضل، وأنا هنا لست نادماً على ما مضى، ورغم أنني في الستين إلا أنني أعمل للمستقبل، نعم المستقبل، حين لا أحتاج أحدا فأنا أصنعه لي ولأولادي بإذن الله. عبرنا إلى طريقنا فوجدنا أحد الأشخاص المرضى النفسيين يجوب الطرقات، كان منهكاً بما يكفي، ملابسه تشكو من الاهتراء، أوقفناه سألناه عن اسمه وأخذنا خطوتين إلى خلف، في وضع احترازي خوفاً من ضربة (كف) مباغتة، أو (لكمة) جانبية، كونه يحرك يديه باستمرار، أخبرنا بصوت خافت وبتلعثم في حروفه الصادرة من صوته ( معتوق .. معتوق.. معتوق)، وبأكثر حذر سألنا : (إيش تسوي يامعتوق) .. وفتح كيسه لنشاهد (ملابسه في الداخل) يقول لنا: (حقي.. أنت ما عندك..) ليضيف معتوق بصوت مهتز وبصرخة (عندك فلوس.. أعطيني احسن لك.. واذا ما عندك أعطيك 10 ريال.. بس تردها بكرا.. بس مو تسرقني مثل عباس).. عرفنا أن وضع (معتوق) سيء للغاية.(يضحك) ولكنه يدعو للأسى. تركناه ومضينا في طريقنا لنلتقي بالعم عمر إدريس 70 عاماً، أخبرنا أنه متعب للغاية ويشعر بملل كبير، لم يعد يستطيع العمل، لديه 3 أبناء، ولا يريد أن يحتاج لأحد منهم، لذا يعمل في مجال الفاكهة والخضار، يشتري ويبيع، مضيفاً أن الحياة جميلة، ولكن عمره الذي قضاه في هذا العمل اتعبه كثيراً، 25 عاماً تكفي، سيذهب للراحة في منزله قريباً، لم يعد يطيق جدل البائعين والمشترين، والوقوف تحت قيض الشمس الحارقة التي تصيبه بالدوار دائماً، مستطرداً أنه تحت وهو في الظل يشعر بتعب، إلا أن العيش والبحث عن لقمته يجبره على ذلك، مؤكداً أنه دخله اليومي في هذا المكان لا يتجاوز 70 ريالاً في اليوم. منوهاً أن قد يفكر في بقالة يشرف عليها بجوار منزله ليمضي فيها بقية حياته ويتسلى بالعمل أوقات الملل. لمحنا في أطراف جولتنا رجلا مسنا، تبدو من ملامحه حالة التعب والقرف من الحرارة الشديدة، كان شارد الذهن تماماً، لم ينتبه لنا إلا بعد ألقينا عليه التحية، ليبدأ العم عطية غريب 75 عاماً، في سرد قصته لنا، منذ أنشأت حلقة الخضار الحديثة في جدة قبل 3 عقود وأنا أعمل حيث وجدتموني، هنا أقطن طوال حياتي، أبيع واشتري، يوم تكون فيه الأمور مزدهرة ويوم تكون في متعبة، هكذا هي الحياة، تطيب حيناً وتدبر في أوقات أخرى، ويضيف العم عطية بقوله: لدي 3 أبناء، لديهم أعمالهم وأنشطتهم، وأنا لي أنشطتي، بإمكاني أن أجلس في البيت، لكن الجلسة في البيت ليست للرجال، العمل (بركة)، الحياة تشغل الجميع عنك، الكل يفكر في نفسه، يضحك العم (عطية) قائلاً: (نفسي نفسي)، الناس لهم أعذارهم، عليه فإن الحياة بدون عمل لا طعم لها ولا رائحة. هل يكفي؟!!. وأشار لنا إلى صديقه وجاره في المكان العم ثويبت السلمي 70 عاماً، كانت ملامحه منزعجة من شيء ما، فيما جاءت إجاباته مقتضبة جداً، أخبرنا أن لا أبناء لديه، ويعمل هنا من سنين طويلة، ويحب عمله ويتفانى من أجله، ليست لديه مشاكل مع أي إنسان، وسيستمر في العمل حتى اللحظات الأخيرة، مشيراً إلى أن العمل عبادة لكبار السن، بدل الحاجة لأي مخلوق، العمل يريحه كثيراً ويقضي فيه أوقاته. انتقلنا إلى مكان آخر، وجدنا العم عبدالوهاب الصامتي، رفض أن نصوره أي صورة، أوضح لنا أنه يرفض أن يأخذ من ولده أو ابنته مصروفاً يومياً، معتبراً ذلك عيباً يطوقه، لذا يتسلل بعد أن يصلي الفجر ويأتي لحلقة الخضار ليأخذ مشواراً أو ينقل خضاراً، في يوم يحصد 100 ريال في يوم آخر 50 ريالا، هكذا لا يحتاج لأي إنسان حتى وإن كانوا أبناؤه، ويواصل العم عبدالوهاب 68 عاماً بقوله: يا ولدي كنت موظفاً والآن متقاعد وراتبي التقاعدي 1700 ريال، مع هذا العمل استطيع العيش بشكل معقول، أما أن أجلس في منزلي، وانتظر الإحسان فلن أفعل هذا ما حييت. ويستطرد العم عبدالوهاب أحد أولادي بكى حين علم بحجم التعب في عملي هذا، كنت أخبئ عنهم هذا العمل اليومي، قلت له لن أتوقف لأنني لا أريد أن أموت، متى ما توقفت عن العمل سأتعب كثيراً، أخذ يرجوني كثيراً لأتوقف عن العمل، دون جدوى، طلبت أن لا يخبر أحدا من أخواته بما أفعل، وفعلاً لم يخبر أحداً، ليس لأنني أخجل مما أمارسه ولكن لأنني أعرف أنهم سيجبرونني على التوقف والبقاء في المنزل، وهو ما سيتعبني كثيراً، وسأجد نفسي أزور المستشفيات فالجلسة قاتلة يا أبنائي.