تبشر الميزانية القادمة بخير عميم بفضل من الله ثم بفضل ثبات أسعار النفط، فزادت الإيرادات المتوقعة من 702 مليار إلى حوالي 1.2 تريليون ريال، يعتقد كثيرون أن هذا الفائض سيوجه لزيادة الإنفاق العام وبناء احتياطات مالية ولتقليص حجم الدين العام وهي عناوين سياستنا المالية التي درجت وزارة المالية على إعلانها مع كل ميزانية وتكمن إشكاليتها في التفاصيل، وأزعم أن قد حان الوقت لمراجعتها، أقله إعادة ترتيبها لتخليص سياستنا المالية من بعض السلبيات، أقله التسبب في التضخم المحلي وتخليص سياستنا النقدية من تفعيل التضخم المستورد تخليصا للمواطن من أعباء معيشية إضافية. بديهي، أن يستمر الإنفاق الكبير لتعويض النقص في خطط التنمية وترميم هشاشة البنية التحتية والتوسع المناطقي للتنمية العادلة، لكن نسب وأسباب تزايد هذا الإنفاق حان وقت مراجعتها، ليس عملا بنصيحة البنك الدولي وإنما تحقيق لمصلحتنا العامة، أهمه الحد من آثار الاقتصاد الريعي المرسخ لرأسمالية القطاع العام، وإن عمدنا لخفض الإنفاق بالتوسع في الخصخصة وحدها سنرسخ مفهوم تغول رأسمالية القطاع الخاص مما يفرض التعادلية. المستويات الحالية للإنفاق برأيي المتواضع تعتبر معقولة، فإضافة إلى تعثر المشاريع (25% منها نفذ في وقته، 50 % متعثرة، 25 % متعثرة كليا) لا يساهم هذا الإنفاق بتوطين الوظائف ويضغط على أسعار مواد البناء التي تهم المواطنين الساعين لتملك سكن وهم أغلبية السكان فيولد تضخما محليا، فضلا عن الهدر المالي لتعطل هذه المشاريع لتدني الكفاءة الإدارية المشرفة وربما لفساد بعضها، من هنا يأتي تفضيلي لزيادة آليات المحاسبة وتحسين سبل الإدارة على زيادة الإنفاق ذاته. الفائض الذي نتمتع به حاليا وليد ظرف مؤقت، فأسعار النفط بقيت مرتفعة بسبب عوائق تصديرية تواجه أغلبية دول أوبك (العراق، ليبيا، إيران، فنزويلا، نيجيريا وغيرهم) وستختفي هذه الفوائض خلال ثلاث سنوات على أكثر تقدير إذا استمر تزايد معدلات الإنفاق، والاستعداد للسنين العجاف يتطلب ترشيد الإنفاق وزيادة كفاءته. بجانب الصرف من الدخل الأساس على المشاريع التنموية الضخمة التي سيشعر المواطن بفائدتها مستقبلا يمكننا توجيه بعض الفائض لخدمات أخرى تمس المواطن مباشرة، مثلا، تقديم دعم مباشر، وليس عبر التجار، للسلع الأساسية، يمكننا تقليص قوائم انتظار صندوق التنمية العقارية وقوائم انتظار أسرة المستشفيات، تطوير النقل بين المدن والأرياف، بالمناسبة تنمية الريف تعتبر إنفاقا استثماريا استراتيجيا، فقد درجنا على أريفة المدن حتى طفحت ثلاث مدن فقط، الرياضالدماموجدة، بحوالي 70% من السكان. يمكننا أيضا توجيه بعض الفائض للصندوق السيادي المزمع إنشاؤه لحفظ حق الأجيال القادمة في الثروة، ما يصرف لتطوير إنتاج المزيد من النفط يمكن توجيهه لمشاريع مستقبلية لتنويع مصادر الدخل وإلا فإن التزامنا بدعم الاقتصاد الدولي من الانهيار يجب أن يقابله التزام دولي، أقله تخفيف ضرائب النفط الحمائية وتعاون تقني أكبر، آخرا وليس أخيرا فإن تسديد الدين العام وإيقاف فوائده أولى من تكوين احتياط مالي قد يلتهم هذا الدين. سياستنا النقدية أيضا بحاجة لمراجعة، وأعتقد أن مبررات ربط عملتنا بالدولار تهاوت تباعا، بل ثبت أنه المسبب الأول للتضخم المستورد من المصدر، أزمة أمريكا المالية تحولت لهاوية تحذر من الارتباط أكثر بدولارها، حتى إن الصين وهي أكبر مستثمر في أمريكا خفضت محفظة سنداتها الأمريكية بحوالي 30 % هذا العام.. والمأمول أيضا تحكم أكبر بسعر الإقراض لصالح المواطن، بنوكنا تحقق أرباحا عالية، اللهم لا حسد، ولكن كل بنوك العالم تخدم مجتمعاتها التي ساهمت بنموها، كل سلطات العالم النقدية تفرض على بنوكها نسبا ائتمانية متغيرة لتوفير المزيد من السيولة لمواطنيها ضمن شروط معقولة. ثم سعر صرف عملتنا الصامد منذ عقود أمام الدولار، أما آن لهذا الفارس أن يترجل، أيعقل تجمده سنينا في عالم اليوم سريع التغير.