في تسعينيات القرن العشرين، عاد ابن رشد بقوة إلى الواجهة الفكرية والثقافية في العالم العربي، وبطريقة تلفت الانتباه بشدة، وتضع هذه العودة في دائرة المساءلة والاستفهام، وتحري البحث عن طبيعة الخلفيات والأبعاد التي تقف وراء هذه العودة غير العادية على الإطلاق. وتعد هذه الحقبة من أكثر الحقب الزمنية الحديثة التي جرى فيها تذكر ابن رشد، وارتفاع وتيرة الحديث في التأكيد على الحاجة إليه، وإلى تراثه الفكري، والعمل على استعادته، وبعثه من جديد، وكيف أنه بات يمثل مطلبا فكريا ضروريا لا بد من الاقتراب منه في المجال العربي. وعند العودة إلى كتابات تلك الحقبة، نجد أن الكثير من هذه الكتابات، وبالذات الكتابات المصرية، حددت الحاجة إلى استعادة ابن رشد ليكون أداة وخطابا في النزاع الفكري بين التيارات الفكرية وخصومهم الإسلاميين، أو مواجهة ما عرف في تلك الكتابات بظاهرة التطرف الديني، أو التزمت والتشدد الديني على اختلاف وتعدد التسميات. ومن الكتابات المصرية التي شرحت بوضوح هذا الموقف، الكتابات والمداخلات التي ضمها كتاب (حوار حول ابن رشد) الصادر في القاهرة سنة 1995م، تحرير الدكتور مراد وهبة، وهو في الأصل، أعمال ندوة فكرية عقدتها لجنة الفلسفة والاجتماع في المجلس الأعلى للثقافة المصري في شهر مايو 1994م، لمناقشة كتاب تذكاري حول ابن رشد، نشره المجلس الأعلى نفسه سنة 1993م، بعنوان: (ابن رشد.. مفكرا عربيا ورائدا للاتجاه العقلي)، أشرف على إصداره الدكتور عاطف العراقي. وفي نطاق هذا الموقف الايديولوجي، يمكن الإشارة إلى ثلاثة أقوال، هي: القول الأول: أشار إليه الدكتور فؤاد زكريا في مداخلة له، في كتاب (حوار حول ابن رشد)، وحسب رأيه: إن أفكار ابن رشد يمكن أن تكون سلاحا في يد قوى التنوير، تستخدمه ضد القوى الظلامية التي تستهدف إلغاء عنصر العقل من ماضي هذه الأمة وحاضرها، وإذا كانت هذه القوى تستعين بالتراث من أجل تبرير دعوتها إلى فرض سلطة نقلية صارمة، فإن أصحاب فكرة إصدار هذه الكتاب (حوار حول ابن رشد)، رأوا أن يستعينوا بجانب آخر من التراث، من أجل تحقيق هدف مضاد هو الدفاع عن التنوير. القول الثاني: أشار إليه الدكتور حسن حنفي ليس تأييدا له، وإنما اعتراضا ومناقشة، وحسب قوله: يحاول البعض ربط ابن رشد بالعصر، واستعماله لمهاجمة ما يسمى بالتطرف الديني باسم العقل، ولصالح الدولة ضد خصومها السياسيين، وفي نظر هؤلاء أن ابن رشد هو الحل للصراع الحالي بين السلفيين والعلمانيين. القول الثالث: أشار إليه الدكتور محمد أركون في مقالة نشرتها مجلة عالم الفكر الكويتية، عدد أبريل 1999م، بعنوان (ابن رشد رائد الفكر العقلاني والإيمان المستنير)، في هذه المقالة وعند التساؤل عن الدور الذي يمكن أن يقوم به ابن رشد اليوم؟ أجاب أركون بقوله: ربما يتمثل الدور في الحث على المزيد من التسامح والصرامة الفكرية والانفتاح الثقافي، ويقصد أركون من ذلك حسب قوله: حث الحركيين الأصوليين الحاليين على كل ذلك، فهؤلاء الحركيون الناشطون يغلبون النموذج الإسلامي على كل المكتسبات الفكرية الموصفة بالغربية فهي مسفهة سلفا، ولا قيمة لها من الناحية الابستمولوجية أو الأخلاقية أو التشريعية أو التاريخية. وبالنسبة لهذا الموقف المتحجر حسب وصف أركون، يتخذ فكر ابن رشد أهمية كبرى اليوم، فقد أصبح من الضروري والملح أن نبعثه من جديد، لمواجهة الأصوليين والمتزمتين من كل الأنواع والأصناف. والملاحظ على هذه الأقوال الثلاثة، وما يتصل بها من فضاء فكري واسع، هو أن الطابع الايديولوجي هو الغالب عليها، والمكون لها، والمعبر عنها، بمعنى أن الحاجة لابن رشد في منطق هذه الأقوال، هي حاجة وظيفية في الدرجة الأولى، لها علاقة بنزاعات فكرية واجتماعية، بين فئات وجماعات متخاصمة أو متنافسة أو متباعدة.. هذا الطابع الايديولوجي الفاضح يضع استعادة ابن رشد في المسلك الخطأ، فنحن بحاجة حقا إلى استعادة ابن رشد، لكن ليس لضرورات ايديولوجية، وإنما لضرورات معرفية، وليس للغلبة في النزاعات الفكرية، والانتصار على الطرف الخصم، وإنما لخلق مصالحات فكرية بين الفرقاء، وليس لتكريس خصومات بينهم. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 115 مسافة ثم الرسالة