يعد روجيه ارنالديز الذي توفي سنة 2007م، أحد كبار المستشرقين الفرنسيين المعاصرين الذين اهتموا بدراسة ابن رشد وتراثه الفكري، وجاء ذلك في سياق اهتمامه بحقل الإسلاميات والفكر الإسلامي. ونشر ارنالديز حول ابن رشد كتابات ومؤلفات عدة، منها مقالته حول الفكر الديني لابن رشد المنشورة في كتابه (جوانب من الفكر الإسلامي) الصادر سنة 1987م، ومنها مادة ابن رشد المنشورة في الموسوعة الإسلامية الصادرة بالفرنسية سنة 1987م، ومادة ابن رشد في قاموس الفلاسفة بالفرنسية، ومنها كتابه الأبرز والأهم (ابن رشد.. عقلاني في أرض الإسلام) الصادر سنة 1998م. وقبل هذه الكتابات والمؤلفات، كانت لارنالديز مداخلة نشرت في كتاب جماعي حول ابن رشد بعنوان (ابن رشد المتعدد) الصادر سنة 1978م، في هذه المداخلة اعتبر ارنالديز أن ابن رشد إذا بقي معاصرا لنا فلأن مشكلته الشخصية تظل معاصرة، ولكن مضامين فكره تحمل آثار العصور الوسطى، ولم تعد تعنينا حسب قوله إلا من وجهة نظر تاريخية. هذا الرأي ناقشه واعترض عليه الدكتور محمد أركون في الكتاب نفسه، وحسب رأي أركون نقلا عن هاشم صالح أن اعتبار ابن رشد قد أصبح قديما باليا، ولم يعد يقدم لنا أي شيء من الناحية المعرفية لأنه يحمل آثار العصور الوسطى وينغلق داخلها، هذه الفرضية في نظر أركون لا يمكن القبول بها إلا من وجهة نظر الغرب الذي تجاوز عقلية القرون الوسطى، لكن حتى في المجال الغربي مازال هناك من يرى استمرارية لابن رشد وعقلانيته. أما في المجال الإسلامي، فإن الصورة في تقدير أركون تختلف، فمن المستحيل حسب قوله القول إن ابن رشد قد أصبح قديما باليا، بل على العكس فإن ابن رشد لا يبدو مفكرا راهنا فحسب، وإنما هو أكثر من راهن، ووجوده أكثر من ضروري، وكذلك إعادة إحيائه وإحياء موقفه الفكري. إذا نحن أمام مفارقة تاريخية في الموقف بين من يقول بنهاية ابن رشد، وأنه أصبح من الماضي، ومن آثار العصور الوسطى البالية بالنسبة للمجال الغربي، وبين من يقول باستمراريته وأنه مازال يمثل حاجة راهنة، وأكثر من راهنة بالنسبة للمجال الإسلامي. واللافت في هذه المفارقة، هو التغير في طبيعة الموقف من الناحيتين الفكرية والتاريخية ما بين المجالين الإسلامي والأوروبي، ففي القرن الثاني عشر الميلادي وما بعده كان هناك انفتاح على ابن رشد، وتفاعل مع فكره وموقفه الفكري في المجال الأوروبي، في المقابل كان هناك انقطاع عنه، وحصار على فكره وموقفه الفكري في المجال الإسلامي. حصل هذا الوضع حين كانت أوروبا تحاول الخروج من ما أسمته العصور المظلمة إلى عصور الاستنارة، ووجدت في ابن رشد صاحب العقلانية المستنيرة ضالة لها، وأخذت من تراثه وعقلانيته كل ما تريد، وحينما تجاوزت تلك العصور المظلمة، وعبرت إلى عصور النهضة والتنوير والحداثة، ووصلت إلى ما وصلت إليه من تمدن وتقدم، وجدت نفسها أنها تخطت ابن رشد، وأصبح بالنسبة إليها من الماضي الذي يرتد إلى آثار العصور الوسطى. والسؤال: هل حقا أن أوروبا تجاوزت وتخطت ابن رشد ولم تعد بحاجة إليه؟. إذا كانت أوروبا في القرن الثاني عشر أو الثالث عشر أخذت من ابن رشد عقلانيته، فإنها اليوم بحاجة لأن تأخذ الوجه الآخر لابن رشد وهو إيمانيته، سعيا نحو توازن العلاقة بين العقل والإيمان كما تجلى في ابن رشد.. وأما المجال الإسلامي، فإنه بالتأكيد مازال بحاجة لأن يستعيد ابن رشد، وذلك بعد أن ضيعه وخسره طيلة القرون الماضية. [email protected]