في كتابه (مفهوم العقل) استند الدكتور عبد الله العروي على مقولة (ما هو متاح للبشرية جمعاء)، المقولة التي ابتكرها الدكتور العروي واتخذ منها نظرية في نقد عقلانيات ابن خلدون ومحمد عبده، والقطيعة معهما، وفي تأكيد الانتظام في العقلانية الحديثة، وحين توقف الدكتور كمال عبد اللطيف عند هذه المقولة في كتابه (الحداثة والتاريخ)، وصفها بأنها مقولة قوية ودالة. وتطبيقا لهذه النظرية في نقد عقلانية محمد عبده، يرى العروي أن ما كان أفقا بالنسبة لابن رشد أصبح حدا بالنسبة لمحمد عبده، أفقا بالنسبة لابن رشد لأنه فكر فعلا في نطاق المتاح للبشرية جمعاء، في حين لا يستطيع العروي تأكيد القول إن محمد عبده فكر في إطار ما كان متاحا للبشرية في عهده، لأنه حين أجاب على سؤال طرحه الغرب الحديث، فإنه في جوابه اعتمد حسب قول العروي على مادة ليست هي كل ما هو متاح للبشرية، لهذا انقلب ما كان أفقا عند ابن رشد إلى سد عند محمد عبده. وفي نقده لابن خلدون من هذه الجهة، يرى العروي أن العقل عند ابن خلدون وسائر المفكرين المسلمين، إذ يحاصر الوهم وينفيه عن مجال النشاط البشري الجدي، يحد ذاته بذلك، يمنع العقل ذاته بمحاصرة الوهم من الزيادة في التعقل، فلا تتعدى العبارة اللفظ، ولا يتعدى الرمز الحرف، وواضح للجميع ما لهذا الحصر من أثر سلبي على تطور العلوم. وفي خاتمة كلامه عن ابن خلدون، يرى العروي أن ابن خلدون طبق على الواقعات، أحداث التاريخ البشري، منطق الكوائن والطبائع بمعنى المتكلمين والحكماء، فسد الطريق في وجه عقل العمل البشري، وبالتالي عقل الطبيعة كما فهمها الفكر الحديث، مجال تجارب الإنسان المتجددة، فجعل العقل والعلم والحق في جانب، والوهم والظن والباطل في جانب مقابل. أبدل العقل التجريدي بالعقل التجريبي، فكان رائدا في ذلك، لكنه توقف عند حده ولم يطور العقل التجريبي إلى عقل سلوكي يعم كل أوجه المباشرة والمعاملة والمخاطرة، فحصر بذلك معنى العقل في التعقل والتعقيل، وحصره هذا هو حصر الجميع، من يتولاه اليوم يبقى سجين حدوده، فيتيه في المفارقات. والنتيجة التي يريد العروي الانتهاء إليها هي: الإقرار أن العقل عقلان: أحدهما يهم الفكر وحده، مهما كانت المادة المعقولة، هدفه النظر في شروط التماسك والاتساق، والثاني يهم السلوك أو الفكرة المجسدة في فعل، هدفه النظر في ظروف مطابقة الوسائل للأهداف المرسومة، أيا كانت، الأول عقل المطلق، عقل الكائنات المجردة، عقل الحدود والأسماء، عقل النطق والكون، والثاني عقل الواقعات، أفعال البشر المتجددة. ومع هذه المفارقة ما بين هذين المفهومين للعقل، وجب في نظر العروي إحلال القطيعة بينهما، بوصفها قطيعة بين القديم والحديث، وأن لا حاجة له للتذكير حسب قوله أن هذا الكتاب (مفهوم العقل) بني كله على واقع القطيعة المذكورة، وقبلوها كمسلمة. وإذا كان ابن رشد سلم من نقد العروي، واعتبره دعامة من دعائم التاريخ الكوني، وأن فكره وصل إلى أقصى ما وصلت إليه البشرية المفكرة آنذاك في المنطقة المحيطة به، ولم يذهب أحد أبعد منه في سبر المعضلات التي تطرق إليها، وانجذب إليه كبار اليهود والنصارى، وابن رشد هذا الذي سلم من النقد الصارم للدكتور العروي، لم يسلم من الدكتور محمد أركون ونقده الصارم، وما طبقه العروي على ابن خلدون ومحمد عبده طبقه وبالطريقة نفسها أركون على ابن رشد الذي حاول الكشف عن محدوديته المعرفية والتاريخية، ووضعه في إطاره الزمني المنتهي، الذي يعني بالنسبة إليه ضرورة القطع والقطيعة معه، لأن الفكر الحديث في نظره تجاوزه، وأصبح من الماضي، وبدت تفصله عن الحداثة الراهنة مسافات لا نعرف مداها. وحسب نص أركون يقول: ينبغي ألا ننسى أن ابن رشد ينتمي إلى عصره، وتنبغي موضعته تاريخيا داخل هذا العصر القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي بكل الإمكانيات العلمية المحددة، والمحدودة لذلك العصر، لقد حاول البرهنة على رأيه مستخدما وسائل عصره، وتوصل إلى نتائج معينة، لكن هذه النتائج ليست نهائية بخصوص الموضوع، ولا تلزمنا اليوم إطلاقا. وإذا ما اطلعنا على رأي العلم الحديث بمشكلة السببية وقارناه برأي ابن رشد استطعنا أن نقيس حجم المسافة الفاصلة بينهما. وعندئذ نعرف مدى المسار المقطوع بينه وبين الحداثة الراهنة. هكذا ينبغي أن نمارس العمل المنهجي والتاريخي، ونطبقه على الفكر العربي الإسلامي. والإشكالية هنا أن هذه المنهجية نتيجتها هي الخروج والانقطاع عن عقلانيتنا، والالتحاق والتبعية في عقلانية الآخر تحت مسمى العقلانية الحديثة. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 115 مسافة ثم الرسالة